اللا أخلاق!

 

عبدالله الفارسي

الأخلاق كلمة عظيمة لها جلالها وروعتها وبريقها في كل أصقاع العالم، إنِّها صفة جليلة جلال السماء، وعظيمة عظمة الوجود، وكل الديانات السماوية والبشرية تدعو إلى الأخلاق وتُبجل مكارمها، كل الأنبياء بُعثوا لإصلاح أخلاق النَّاس؛ بل الدين في حد ذاته هو أخلاق خالصة.

والله سبحانه وتعالى فرض الركوع والسجود وسائر العبادات ليس لغاية العبادة في حد ذاتها وإنما لتقويم أخلاقنا وسلوكنا وتعاملنا مع بعضنا البعض. وليست هناك فضيلة وصفة أجمل وأروع من فضيلة حُسن الخلق؛ فلا دين بدون أخلاق.. ولا عقيدة بدون سلوك قويم. ومهما بلغت صلاتك من الإتقان ولا صومك من الدقة فلا قيمة له إذا لم يرتقِ بسلوكك ويهذب تعاملك مع الناس.

ولعل مقولة رسولنا العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" هي أشرف وأسمى ما قاله نبي مرسل على وجه الأرض.

ولا يختلف اثنان على أنَّ الأخلاق تحتضر وهي في انحسار وانخفاض وأن البشر في انحطاط وتدهور. هنا لن أثرثر في الأخلاق العظيمة السامية الرفيعة وهي التي لا يبلغها إلا الصفوة من البشر، ولكن هناك مستوى أقل من الأخلاق، هناك أخلاق بسيطة، أخلاق سهلة خفيفة يفترض أن يتحلى بها غالبية البشر. إنها الحد الأدنى من الأخلاق والتي تستند عليها المجتمعات وتقف على قدميها.. هذه الأخلاق البسيطة الخفيفة هي ما يتعامل به الناس في حياتهم اليومية.. يتعاملون بها في فرحهم وغضبهم وفقرهم وعلمهم وجهلهم.

وحين تنعدم هذه الأخلاق البسيطة الخفيفة وتختفي من سلوكنا وتعاملنا اليومي تفقد الحياة بريقها وتتلوث جبهتها وتتعفن رائحتها.

لن أتحدث هنا عن الأخلاق الكريمة العظيمة كما أسلفت، والتي كادت أن تنقرض من حياتنا.. سأتحدث عن فقداننا لأدنى المواقف والسلوكيات الأخلاقية.

سأتحدث عن كيفية التعامل بحماقة وروعونة مع بعضنا.. سأكتب عن السلوك اللاأخلاقي لبعض المؤسسات والشركات.

الموقف الأول:

أخبرني صديق يسكن في محافظة مسقط يقول عثرت ابنتي خريجة اللغة الإنجليزية على إعلان يطلب مُعلمة لغة إنجليزية في مدرسة خاصة بشكل عاجل.. فذهبت في الصباح الباكر إلى المدرسة المذكورة وقابلت مديرة المدرسة وأخبرتها أنها جاءت لأجل الوظيفة المعروضة. دخلت في مقابلة شخصية مع مديرة المدرسة والمعلمة الأولى وتمت الموافقة عليها مباشرة وتم تسليمها العمل وجدول الحصص.

يقول الرجل: اشتغلت ابنتي اليوم الأول والثاني والثالث بدوام كامل، وفي مساء اليوم الثالث وفي غمرة سعادتها وغبطتها بالعمل وصلتها رسالة واتساب من مديرة المدرسة: "أرجو عدم حضورك غدا وسنتواصل معك بعد أسبوعين لتوقيع عقد العمل"!

ابتهجت البنت بالرسالة ابتهاجًا صامتًا ممزوجًا بالقلق محفوفًا بالشك.. فهي تعرف نكهة هذه الرسائل وتُدرك غايتها وفحواها.

مر أسبوع ثم أسبوعان ثم شهر.. ولم تتصل مديرة المدرسة الكريمة الموقرة بالبنت. لم تعتذر للفتاة ولم تتأسف ولم تهتم.. وأكلت جهد الفتاة وتعبها، ولم تدفع حق الثلاثة أيام التي اشتغلتها البنت بجهد وافٍ ودوام مدرسي كامل.

هذا نوع من أنواع الأخلاق الحمقاء الرديئة المعوجة التي تنتشر حاليًا في مجتمعنا بشكل كبير.

الموقف الثاني:

حدثني شاب بكل حزن ولعنة، أنه استُدعي لإجراء مُقابلة عمل في أحد المحال التجارية الضخمة يحمل اسمًا مشهورًا جدًا وباذخًا للغاية.

يقول: طلبوا مني الحضور إلى مركزهم الرئيسي في مسقط، ورغم أنني لا أملك مصروف الذهاب إلى مسقط، فقد دبرت المبلغ بصعوبة لأنني كنت انتظر فرصة العمل هذه في مدينتي منذ سنتين، وكانوا بحاجة ماسة لموظف في ذلك المحل وبراتب هزيل، ولكني كنت أتمنى الحصول على تلك الوظيفة بأي راتب نظرا لظروفي الصعبة  في ذلك المحل القريب من مكان سكني. ذهبت إلى مسقط لإجراء المقابلة واختبار في المحاسبة وكانت النتيجة ممتازة جدا كما قالوا لي. ووعدوني بالاتصال بي لمباشرة العمل بعد أسبوع من تاريخ المقابلة. عدت من مسقط وأنا أكاد أطير من الفرح محلقا من البهجة. شاركتني أمي وأخواني تلك الفرحة وكادوا يحلقون معي من الفرح في تلك الليلة .. فقد جاء الفرج أخيرا وأوشك النحس والبؤس الجاثم في بيتنا منذ سنوات أن ينتهي ويزول ويتبخر.

يقول الشاب وهو ينخر غضبًا: مرَّ الأسبوع وعيني ويدي لا تفارق الهاتف.. كنت أحمل الهاتف معي حتى في الحمام خشية ألا تفوتني المكالمة المنتظرة أو تتجاوزني.

انتهى الأسبوع وطار.. وطارت بعده أيام وأسابيع ولم يتصل أحد. لم يتصلوا بي ولم يرسلوا حتى رسالة رخيصة ولم يعتذروا ولم يعبروا عن حزنهم وأسفهم على هذا السلوك المرير القبيح القاتل.

*****

هذه النماذج الأخلاقية الردئية المقرفة تكاد أن تصبح سلوكيات معتادة شائعة تمارسها يوميًا مختلف المؤسسات والشركات في المجتمع دون احترام أو وخزة تأنيب أو إحساس بمشاعر الشباب المحطمين المحبطين.

فمتى سنحترم أنفسنا ونتعلم الصدق مع الناس والأدب في الطلب والإحسان في القبول والرفض؟ متى ستتعلم هذه المؤسسات وهذه الشركات أساليب الاعتذار الجميل وقت الخطأ؟ والأسف لحظة الخذلان والنكوص في الكلمة والوعد... متى؟

متى سنتعلم هذه المؤسسات والشركات كيفية كتابة رسالة اعتذار لمن يخذلونهم ويكذبون عليهم.. رسالة  من سطرين! متى ستتعلم هذه الشركات والمؤسسات كتابة بعض كلمات فقط .. كتابة رسالة قصيرة  يقولون فيها: (الفاضل/ .... الفاضلة/ ....  نتقدم إليك ببالغ الأسف وخالص الاعتذار. ونتمنى لك فرصة أفضل وفي مكان أفضل.. وفقك الله..).

متى سيتعلمون كتابة هذه الكلمات لكل شابة أو شاب استدعوه بأنفسهم للمقابلة وكذبوا عليه وخذلوه دون سبب؟ متى...؟