المقامة العربية (4)

 

 

سعيد المغيري

 

 

الفقرة الرابعة

 

حتى يحين موعد رحلة المغرب، جال مسلم في المطار بحثا عن المطعم والمشرب، محاولاً سدّ معدته عن بوادر الحرب. كان مسلم يطوف المطار بشكل مضطرب، وهو يتساءل: "أنّى لي من هذه الزقزقة مهرب، وتحقيق ما للمعدة من مأرب؟" 

 

كان الجواب فوري، حين لاحت لافتة كتب عليها بلون بني: "مطعم العالم العربي".

 

عندها ابتهج ابن المهاب وقال للنادل: "يا أخا العرب جيتك من بلاد بن مغرب، ويش عندك مرتب؟"

 

فقال النادل بلهجة يمنية كلها ترحاب: "حللت من الأصحاب، ونزلت ضيفا، وعلينا الحساب! تحب نصلح لك معصوبة؟ أو صحن معصودة؟ وإذا تريد فعندنا كل أنواع المضروبة!"

 

فقال مسلم وهو يُغالب القهقهة: "هذه وجبات مأكولة؟ أو مواطنون حقوقهم مهضومة؟ يا جار أجارك الله من الخطوب، وحفظك في كل الدروب، هات لنا معصوب، وشاي من يدك مسكوب."

 

 وفي المطعم صادف مسلم زولا من الزولات، يلتفت في كل الاتجاهات. فقال ابن المهاب: "(داير شنو) يا صاحب الكرامات؟ عساك بعوافي وبمسرات."

 

فقال الزول: "بسرور وهناء، ولكن أخذني العناء وأنا داير طيارة الدار البيضاء."

 

فقال ابن المهاب: "إذا نحن نشترك المشوار، ومتوجهون نحو نفس الدار. عليّ المسار. وعليك طريف الأخبار."

 

وهكذا تبادل الاثنان الأفكار، وجرى بينهما الحوار. فقال مسلم: "ما معنى زول؟ وإلى أي الكلمات تؤول؟"

 

 فرد الزول: "يقال زول محرفة من زائل. ومثل ما ترى هذا الكفن على رأسي شايل."

 

فقال ابن المهاب: "كل من عليها فان. طيب متى ستستقر السودان؟ وتنعم بالازدهار والأمان؟"

 

فرد الزول: "حين يأتي قائد يشبه سوار الذهب، يقوم بما وجب، ثم بسلام يذهب"

 

فقال مسلم: "لا مؤاخذة: نعتُكم بالكسل حقيقة أو مُؤامرة؟"

 

فقال الزول: "نسمع عن كسل أهل السودان، ولكن نرى السكري والسمنة عند باقي العربان!"

 

وعلى هذا النحو دار الحديث بين ابن المهاب والزول عثمان. تكلموا عن الثقافة والرياضة في السودان، وعن ديربي أم درمان. وحين سأل ابن المهاب عثمان عن ألمع فناني السودان قال: "محمد وردي. فنان أصلي."

 

ثم أخذ الزول يغني: "بلى وانجلى حمد الله ألف على السلامة".

 

وبصوت الزول المخملي الخامة، نسي ابن المهاب خوفه من الملامة، فشذى بمشاعر كانت للزول إعانة، فاستمر الطرب إلى أن حان وقت الهبوط وجاء أوانه.

 

فكف الاثنان عن الغناء، بعدما كانا في السماء، وكانا مرتفعين عمّن حولهم من الملأ. وبينما كانا يهبطان من العلوّ، قال ابن المهاب: "يا زول يا حلو: (أنا لولا أنت لم أحفل بمن راح وجاء)، وكانت رحلتي هذه قطعة من العناء. ثم ما الغناء؟ (ما عليك إذا غنينا، هي غنوة تنسي الوقار، وتسعدُ الروحَ المعنىّ). فغدا يا زول سيأتي (موسم الهجرة إلى الشمال)، وهناك حيث تتوفر الأعمال، وتختفي خلف الجبال الآمال، سننطلق ونحن كما نحن لا نتبدل بتغير الجمهور. وسنظل نحمل الجوهر لا القشور، ونسجل أنزه الحضور، ونكتب أطيب السطور، والله عليم بذات الصدور."

 

فقال الزول: "يا أخا العرب: أبك سكر أم طرب؟ فلا أدري أكلامك منه تستتاب، أم عليه تثاب! أستودعك الحافظ، أنت وما تحمل من المواعظ."

 

فقال ابن المهاب: "يا زول جوك أخذني عنوة، وأخذ ما في العقل من وعي وقوة. صحبتك يا أخي حلوة، أحلى من كل غنوة، فشكرا على السلوة وجو الجلوة."

تعليق عبر الفيس بوك