ما معيار العيب في العمل؟!

 

حمد بن سالم العلوي

معذرة منكم فقد اكتشفت أنيّ إنسان رجعي، وقد اكتشفت هذه المثلبة مؤخرا في طبعي البشري؛ حيث تلاحظ لي ذلك عندما أذهب للصلاة في الجامع، وخاصة يوم الجمعة، أرى بعضًا من النَّاس يأتون متأخرين في كل مرة، وما هي إلا دقائق بسيطة فتراهم بعدها يصطفون في الصف الأول، وقد أنكرتُ في نفسي ذلك الإلحاح على الصف الأمامي، واعتبرتُ أنَّ الانتماء إلى الصف الأول بمجرد تجاوز باب المسجد إلى الداخل بحسب الوقت.. لكن كيف اكتشفت أنني رجعي، وأن أولئك الذين يتخطون النَّاس إلى الأمام تقدميون؟!

عندما يضيق بي المكان في الأمام، فأنني أرجع إلى الخلف بصورة تلقائية، إذن؛ رجعيتي من تصرفي اللاإرادي، وكذلك أفعل كلما شعرت أن أحدًا ممن في جواري به زكام مثلًا، فإنني أهرب منه إلى الخلف.. وليس إلى الأمام، وهنا عرفت المقولتين اللتين ظللت أسمعهما زمنًا طويلًا، ولم أكن أفهمها بسهولة، وقد عرفت معنييهما الآن، وهذا يعد تأخرا مني في الفهم، ومن تلك التصرفات عرفت من هم "التقدم يون" ومن هم "الرجعيون" وإن الرجعي ذلك الذي يتأخر عن غيره في الفهم، والمؤسف أنني رجعي بغير وعي.

لقد بدأت بهذه المقدمة البسيطة لكي ألتمس منكم العذر على تخلفي في فهم كل الأمور في وقتها، وخاصة الحديث منها والمتجدد في الحياة، لذلك أعتذر من التقدميين بأني سأختلف عنهم في نظرتي للذين لا يتأففون من العمل، ويعملون ويكسبون من عرق جبينهم، وقد أخالف التقدميين أيضًا في معيار العيب، فيما يخص العمل والكدح فيه، فعلى سبيل المثال- ونظرًا لكوني رجعي بالفطرة- لا أرى عيبًا في أن يعمل الإنسان في بيع الشاي والمشاكيك على الطريق، أو في أي مكان عام، ولا بيع ثمار المزروعات من فواكه وخضار على نفس الشاكلة. وبغض النظر أكان ذلك على الشوارع العُمانية أو الخليجية، وحتى الأوروبية إن استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وإن معيار العيب معي أنا- وحدي- أن يمد الإنسان يده ويطلب من إنسان آخر أن يُعطيه أو يمنعه، أو يتأفف عن العمل الشريف، ويظل عالة على الدولة والمُجتمع.

ولا يجد وسيلة يتوسل بها للعمل، إلاّ الهذيان في تويتر أو واتساب، ناقدًا وناقمًا على غيره، وحاسدًا لهم في عملهم، ومُعطيا للنفس الذرائع والأسباب في عدم تقبل العمل، إلا في وظيفة مرموقة، وبالمبلغ الذي يرتضيه "هو" ويقنعه ويغطي كل احتياجاته. ولو أنَّ هذا الإنسان نظر إلى عُمان عبر تاريخها الطويل، حتمًا لن يجد بين صفحات التأريخ أيا نوع من أنواع الترف والرفاهية والدعة وقلة الحيلة، لأنَّ مثل ذلك لا يكون إلا سببًا في التخلف والكسل، ولا يعطي أية فرصة لتقدم عُمان ورقيّها، ورفعًا من قيمة الذات لنفسه وأمام المجتمع.

بل إن تقدم عُمان وجعلها دولة قوية مهابة، كان بالمثابرة على العمل الكادح والشقاء والصبر، ونحمد الله أن فلاسفة العيب اليوم، ما كانوا موجودين قبل خمسين عامًا من هذا الزمن، وهذه الحقب القليلة، ولكنها تكفي معيارًا لحياة الكدح والعمل، فلو كانوا موجودين في هذا العهد القريب الذي سبق سنيّ النهضة بعقد أو عقدين، لما سافر العُماني تاركًا أهله لسنين طوال، وهو ينتقل من بلد إلى آخر ليعمل بمهنة عامل أو سائق، إذن؛ نحن اليوم نحمد الله على عدم وجود المثبِّطين في تلك الأيام القاسية؛ لأن وجود مثل هؤلاء المثبِّطين، فقد كانوا سيحاصرون الناس بقيم العيب الوهمية، وسوف يحاصرونهم بتلك الأوهام التي عشعشت في أذهانهم، وما تركوهم يعملون، لأن العمل "عيب" بحسب فهمهم وإدراكهم. وقد غاب عن أذهانهم، أن هذا العُماني هو الذي بنى القلاع والحصون، وشق الأفلاج والسواقي، ومهّد الأرض للزراعة، وهم بالطبع آباؤنا وأجدادنا.

ولم يُشرع في استقدام العمال من خارج الوطن، إلّا مع بداية النهضة العُمانية، وذلك بالنظر إلى الحالة المستعجلة في البناء والتعمير والتطوير، ولأن عدد العُمانيين القادرين على العمل كان قليلًا وقتذاك، وذلك مع وجود الأيدي العُمانية العاملة خارج الوطن، وكان تأخر البعض عن العودة السريعة، كان ذلك بسبب ارتباطهم بعقود عمل في الخارج، فقد احترموا تلك العقود حتى نهايتها، ثم عادوا إلى الوطن، وباشروا العمل من فور عودتهم، ومع ذلك ظل الباب مفتوحًا على مصراعيه للعمالة الوافد، وهذا استثناء وليس قاعدة.

إذن.. الشواهد كثيرة على أن العمل الشريف مهما كان صعبًا وقاسيًا، فليس فيه أي شيء من العيب؛ بل العيب كل العيب أن يظل المرء متأففًا من العمل، منتظرًا وظيفة الرفاهية في المكاتب الحكومية، وأنا لكوني من الصنف الرجعي، الذي يفهم متأخرًا، لست متيقنًا إن كانت الوظائف الحكومية سوف تستوعب كل المجتمع، وفي نهاية المطاف لن نرى من يعمل في الوظائف اليدوية الأخرى، كالزراعة والرعي، وصيد الأسماك، أو البيع على الطرقات، كما يحدث الآن وهو مظهر ليس بذلك الشيوع المرجو منه.

ومن كان يشك أن في العمل عيب، فعلى هؤلاء المشككين، أن يذهبوا إلى دول أخرى حول العالم، فلن يجدوا وافدين كثر يعملون في الوظائف المساعدة، كعامل نظافة، أو بائع على الطريق، أو غير ذلك من الأعمال الحرة، وإذا شقَّ عليكم السفر إلى الخارج، سأقترح عليكم زيارة بعض الولايات العُمانية، وعلى رأس هذه الولايات ولاية نزوى، وولاية بهلاء، وولاية الحمراء، وفي الجهة الأخرى من الجبل الأخضر ولاية الرستاق، وغيرهن من الولايات التي لم تتلوث بخديعة الرفاهية بعد، أو مرض المقارنات مع منهم أسوأ منّا.