المقامة العربية (2)

 

سعيد المغيري

الفقرة الثانية

ركب مسلم قطاره، و ابتسم وهو يردد أشعاره ويتذكر أخباره. فغرق في بحر خياله وأفكاره، وبالكاد هام في أسراره، واستحضر ماضي أسفاره. حتى حصل من حوله انفجار، من ضحك ستة أنفار كانوا يتبادلون ظريف الأخبار.

 

فقال مسلم بغته: "ما سمعتكم البتة. من صاحب النكتة وجالب المتعة؟"

 

فقال صاحب الطرفة الفائتة: "سأعيدها كي تعم الفائدة." 

 

فسادت عندها لهجة مصرية بحتة، وعلى أثر ما قال من الطرفة ضحك مسلم والستة.

 

فقال مسلم والحبور يملأ صوته: "حلوين في كل حته! والظرافة فيكم صفة مثبتة!"

 

وبعدما ساد السكوت بصفة مؤقتة،

 

قال ابن المهاب: "صاحبنا من مصر ما نفوته. وقبل ما نوصل لازم نسمع صوته. يا عم ولو طقطوقة، ونحن معاك على نفس النوتة"

 

فقال ابن النيل بطريقة إذاعية: "وحدوا الله يا أفندية، ثم صلوا على هادي البشرية. أرى أن تكون هذه الأمسية مخصوصة لحاجة دينية."

 

فقلت: "ولتكن كما قلت يا شيخ الأزهرية. ولتكن ابتهالات صوفية على الطريقة النقشبندية!"

 

 

 فرددوا: "مولاي إني ببابك"

 

وسرى صوتهم في كل المسالك. فتداخل صوتهم مع صوت القطار حتى تشابك، وبجمالٍ أصبح بينهما تناغم وتحابك. فكان وقع طقطقة القطار كوقع لحن الموسيقار. فدفع تجمع الأقدار الهوى إلى أم الأمصار. فوقعت الذكرى في قلب المصري، وتذكر الشيخ النقشبندي وتعاونه مع حمدي، واستحضر كل فن أصلي كان للمحروسة حصري.

 

فقال -وقد كاد يبكي-: "أرض الكنانة ولادّة، بمن لمعوا في الإجادة. كانت لنا الريادة، ومكانة السيادة، حين عملنا بإرادة، وبالخطوات الجادة."

 

فقام مسلم كي يهدئ حزن صاحبه المصري، وقال: "يا عم، الحديث امتداد للحضاري، والحاضر مبني على التاريخي؛ فبليغ مثلا استوعب الشعبي، ودرس الفن التقليدي. ثم من الأصالة أخذ يعطي، موظِّفا عبقريته في التراثي."

 

 

 كان في الحديث عن مصر، لذة معتصرة، جعلت الطريق مختصرة، فبدت كأنها لدقائق مقتصره. وعند العصر، كانت الشام ملئ البصر. وبينما كان يلف حول رأسه المصر، كانت ذاكرة ابن المهاب تنصهر في محاولة لمراجعة أحداث لا تنحصر: فتذكر الشام أيام القيصر، ثم أيام كان للمسلمين فيها النصر، ومرّ بباله طيف دقيقات الخصر، وهن يتبخترن حول القصر. فأخذ ينشد:

 

"عيون المها بين الرصافة والجسر"

 

ومثلما بلغ القطار سرعته القصوى، بسلاسة خفت سرعته حتى استوى. فهبط مسلم وفي قلبه يهبط الهوى. فنزل من القطار وقال بصوتٍ خائر القوى: "يا شام يا خير المأوى. كم قصة فيك لم تروَ."

 

ثم أخذ يمشي بخطوات شبه منضبطة، ومشاعر الحنين في قلبه وافرة متخبطة.

 

ثم أردف بصوت النشوان: "أمان عليك يا شام، أمان. جمالك ينير العينين ويبهج الجنان"

 

وبينما هو هائم بين الحسان، تذكر أياماً أذهبها الزمان. أيام كانت القضبان لراحة الإنسان. يوم كان عليها بأمان يسير القطار بلا عنان. يوم كان من دمشق فيحاء البنيان يسير إلى أطهر البلدان: إلى المدينة دار الإيمان.

 

فقال مسلم بصوت أقرب إلى الحشرجة: "حين تركنا الهرجة هزمنا الفرنجة. وحين تسامينا عن السماجة كنا للعالم دليله وسراجه."

 

وهكذا سار ابن المهاب في طرقات متعرجة، وبجواره بردى بصفحته المموجة. حتى وصل إلى ساحة لا تخلو من الضجة، في وسطها نصب أو برج للموجة. وبعدما ملأ بصره بتلك الفرجة،

 

ردد ابن المهاب: "هنا المرجة. هنا المرجة." ثم أنشد قائلا: "زينوا المرجة، والمرجة لنا. شامنا فرجة وهي مزينة"...

 

بعدها أخذ مسلم المسارات الشرقية، قاصدا الاستجمام في الحميدية، قبل أن يكمل جولاته في العاصمة الأموية. وكثيرا ما تدفع أمور تذكارية ابن المهاب لقول ملاحظات ذكية، من قبيل أن زائر الأقطار العربية، زيارته دون العادية، ما لم يزر الأسواق الشعبية. أو مثلا أن تناول الأطباق المحلية، هو ما يجعل الرحلة استثنائية. وكثيرا ما يضيف لملاحظاته قصصا حقيقية حصلت له في كل من سوقي واقف والمباركية.

 

 

وعند السوق، رأى مسلم فتى يمشي وهو ممشوق بطربوش وبسروال سوري مرموق.

 

كان ذلك الفتى ينادي على المارين كالبوق: "خفف الشوق، ومن التمر الهندي ذوق."

 

فدنا منه مسلم وقال: "رزقك الله خير الدارين. ناولني يا بني كأسا أو كأسين، أسقي به قلبا مترعا بالحنين. غاب أعواما وسنين عن بلاد الياسمين".

تعليق عبر الفيس بوك