المقامة العربية

 

سعيد المغيري

الفقرة الأولى

 

حدثنا مسلم بن المهاب، أنَّه حضر يوماً جمعاً لأحد الأصحاب، الذي عادةً ما يختلق الأسباب، ليجمع الشباب حول ما لذَّ وطاب من الطعام والشراب. فسعد الأحباب برؤية الأحباب، ورقّ حديثهم وانساب. وبينما كان الكلام في كل الشعاب، كانت البطون تُملأُ دون أي حساب.

 

وبعدما أكلوا اللحم المَحلّي، وخاضوا في الكلام المسلّي، قلت: "جلستكم يا جماعة حلوة، أحلى من كل غنوة، ولكنني يأخذني النوم عنوة. يا أحباب حان وقت القيام، فأنا بعد الغداء من النيام." ثم أنشد قائلاً:

 

لكل امرئ من دهره ما تعودا ... وعاداتنا بعد الغداء نتمددا

 

وهكذا دخل مسلم في سلطان النوم، وسبح في ملكوته بعيدا عن القوم. وبينما هو في المنام، رأى ما يرى النائم من أحلام: إذ رأى نفسه بملابس واسعة الأكمام، مسربلةٍ حتى الأقدام، وكان حول خصره حزام، يضم أوراقاً وأقلام، وهو على ما هو عليه يمشي بين العوام، كابن بطوطة المقدام، أو كالإدريسي الهمام.

 

وبينما كان مسلم يخوض في الزحام، وسط أفواج تمشي بانتظام، ضل طريقه وتملّكه الاستفهام، فلم يدر أللخلف وجهته أم للأمام. وبينما ابن المهاب يسير بغير زمام، رأى بالجوار مكتبا للاستعلام، وخلفه فتاة ممشوقة القوام، مبتسمة على الدوام. فقال: "لابد من الاستسلام، وطلبِ العون لرفع الإبهام."

 

فدنا منها وقال: "يا فتاة عليك السلام."

 

فردت: "مرحباً يا أخا العرب. أنا إلهام."

ثم أردفت باهتمام: "فيمَ تطلب الإفهام؟"

 

فقلت: "يا إلهام، إن في القلب سهام، والروح في استهام بصوتك الذي كله أنغام، إن قلبي وروحي في استجمام."

 

فقالت إلهام بعدما تركت الابتسام: "هات فحوى الكلام، ودع عنك مقدمات الغرام."

 

فقال مسلم: "عذرا على هذا الإقحام. لم أقصد عدم الاحترام؛ فكل ما في الأمر يا إلهام أنني -بعد غياب طال أعوام- عازم على السفر إلى الشام لزيارة الأرحام. ولكن هاأنذا تائه وسط الأنام، عالق في موجٍ من الأجسام، فقلت علّي أجد عندك الإعلام، حول ما لمّ بي من استفهام."

 

 

فقالت إلهام: "أمن الشام أنت يا إمام؟"

فقلت: "نعم. ولكن لي في كل بلاد العرب أرحام، هم مني بمنزلة الإخوة والأعمام. بالأمس كنت بالدمام، مع إخوة حفَوني بالإكرام. واليوم أقصد الشام، التي فيها تحلو الأيام"

 

فقالت إلهام وقد ملأها الإعجاب: "لله درك! تركب الصعاب لصلة الإخوة والأحباب! عملك هذا فيه ثواب ستلقاه يوم الحساب، وستلقاه عند كل باب."

 

فقلت: "يا فتاة، هاكِ الأخبار: قريبة هي كل الأقطار، وكثيرة هي سبل الأسفار. اليوم سأسافر بالقطار، وبالأمس بالإبحار زرت دبي بعدما كنت في صحار. ومع تعدد الخيار، لوسائل التنقل بين الأمصار، ومع كل هذا الاختصار لطول الأسفار، إنني -والله- لأحتار! كيف رضينا بالعار؟ وقطعنا أهلنا الأخيار؟ ونسينا حتى أقرب جار؟!"

 

فقالت إلهام: "رزقك الله طول العمر، وفي الدارين خير الثمر. يا واصلاً رحمك، خذ ذاك الممر، وامشِ عليه واستمر.  وعند بلوغك ذاك الجمع من البشر، اتبع لوحة المؤشر، نحو بوابة رقمها إحدى عشر."

 

وبينما كان مسلم ينتظر الانطلاق، وبعدما ختم جوازه والأوراق، قال: "هلمّ بي نحو هؤلاء الرفاق، لطرد الملل الذي لا يطاق."

 

فقال ابن المهاب: "بالله، أمن السعودية يا جماعة؟" 

 

فردوا: "ومن جدة بعد، يا صاحب العمامة!"

 

فقال مسلم وعلى وجهه نصف ابتسامة: أللأهلي أم للاتحاد الزعامة؟"

 

فقالوا: "بعيدون نحن عن هذه الدوامة."

 

فقلت: "طلاليون؟ أم عبداويوا المقامة؟"

 

 فقالوا: "بل هي كالحمامة، بين الإثنين حوامة."

 

فقال مسلم: "بل أنتم تؤثرون السلامة، وتخشون الملامة."

 

فقالوا: "بل ليس لنا فيما ذكرت هوى، ونحن مع ذلك لا نقوى، دون إطلاع بالمحتوى، على الفصل بينهما والفتوى."

 

فقلت: "لله درّكم! وإن يكن هذا أمرٌ منه مفروغ، لكنه فعلٌ فيه شيء من النبوغ الذي قلّ نحوه البلوغ. فكم هارفٍ بلا فهم يسوّغ أن يكتب لنفسه البزوغ بحديث جلّه نزوغ."

 

وهكذا مع الشباب قلّب مسلمٌ المواضيع، حتى مرّ وقت الانتظار بشكل سريع، وقدِمَ القطار بصوته الفظيع، معلناً أن قد حان وقت التوديع.

 

فودّع مسلمٌ أصحابه بقولٍ سجيع وقال: "كتب لكم السميع، في رزقكم التوسيع ولصيتكم الذيع. ها هو قطاري السريع، يدعوني بشكلٍ بديع إلى شام الجميع. "على الله تعود" قال وديع، وها أنا أعود للربيع، حيث الياسمين والينابيع والذوق الرفيع."

 

ثم ختم حديثه وقال: "جلستكم يا جماعة حلوة، أحلى من كل غنوة، ولكن الشوق يدعوني بقوة، إلى من بالشام من إخوة".

تعليق عبر الفيس بوك