فوضى عالمية

حاتم الطائي

◄ الأوضاع الراهنة في العالم تُنبئ بعام صعب في 2023

◄ أمريكا تسعى لتعزيز اقتصادها بالإضرار بالاقتصادات الأخرى

◄ لا بديل عن "مخرج آمن" لجميع الدول من الركود المُحتمل

لا يخفى على أحد ما يتعرض له الاقتصاد العالمي من اضطرابات وتقلبات يبدو أنَّها ستتسبب في أسوأ ركود اقتصادي منذ عقود طويلة، وفي الوقت الذي تمارس فيه البنوك المركزية محاولات مُستميتة من أجل كبح جماح التضخم، نجد مسؤولي السياسات المالية والاقتصادية يتخذون إجراءات تفاقم من التضخم وتداعياته، ليس فقط على اقتصاداتهم المحلية، ولكن على مستوى الاقتصاد العالمي.

الأوضاع الراهنة في العالم تُنبئ بعام صعب في 2023؛ إذ إن التجاذبات الشديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول تحالف "أوبك بلس" حول خفض إنتاج النفط بهدف ضمان استقرار الأسعار والمواءمة بين العرض والطلب على الخام الأسود، وأيضًا تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على أوروبا وتحديدًا ألمانيا وفرنسا، فضلًا عن الوضع غير المستقر على الإطلاق في بريطانيا، يقف الاقتصاد العالمي أمام مفترق طرق، بين مساعي خفض معدلات التضخم من خلال زيادة أسعار الفائدة من جانب، وبين السياسات المالية المرتبكة وربما الكارثية من قبل بعض الحكومات. ففي الوقت الذي تبذل فيه البنوك المركزية جهودًا مضنية من أجل الحفاظ على أقل مستوى ممكن لمعدلات التضخم، يسعى متخذو القرارات المالية والاقتصادية لفرض إجراءات من شأنها دعم النمو الاقتصادي وتحفيزه، من خلال زيادة معدلات الإنتاج أو جذب الاستثمار الأجنبي أو التوسع في الأنشطة المختلفة. غير أنَّ هذه الإجراءات تصطدم بعقبة كؤود تتمثل في التضخم الذي يتزايد يومًا تلو الآخر في مختلف البلدان، إلى جانب المشاكل التي ما زالت قائمة في سلاسل الإمداد والتوريد، نتيجة للأزمات المختلفة حول العالم، وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية.

والحديث عن تخبط السياسات يتجلى بقوة في أكبر الاقتصادات حول العالم، فمثلًا الولايات المُتحدة تسعى لخفض معدلات التضخم من خلال زيادة أسعار الفائدة، ولنا أن نعلم أنَّ بنك الاحتياطي الفيدرالي (المركزي الأمريكي)، رفع أسعار الفائدة 5 مرات منذ بداية العام الجاري، وما زالت هناك جولة أخرى سادسة لرفع الفائدة قبل حلول نهاية العام. وفي كل مرة يقوم الفيدرالي الأمريكي بهكذا خطوة، تزداد قوة الدولار أمام العملات الأخرى، ومعها تتفاقم أزمة الديون العالمية المقوّمة بالدولار، وتتعقد الإجراءات الإصلاحية في مختلف دول العالم؛ بل ويتسبب ذلك في ارتفاع التضخم بمعدلات مرتفعة في الدول ذات المديونيات الكبيرة، نتيجة لانخفاض قيمة عملاتها المحلية أمام الدولار القوي، وربما قد تتسبب زيادة قيمة المديونيات الدولارية في عدم وفاء بعض هذه الدول بسداد ديونها.

هنا نحن أمام مشهد مُعقد للغاية، فأكبر اقتصاد في العالم يسعى لتعزيز نموه عبر إجراءات تُلحق أضرارًا بالغة بالاقتصادات الأخرى؛ بل ويتسبب في تفاقم أزمة الدين العالمي مع تنامي قوة الدولار، بينما تُكافح هذه الدول من أجل توفير احتياجاتها؛ سواء التي تستخدمها في عمليات التصنيع والإنتاج ضمن خطط تعزيز نمو الناتج المحلي الإجمالي، أو تستوردها بالدولار لتلبية الطلب الداخلي على بعض السلع، ولنا في أزمة الحبوب مثالًا، وهي أزمة مزدوجة لكثير من الدول. ففي الوقت الذي تعاني فيه الدول المستورِدة للحبوب من عدم توافر الشحنات اللازمة القادمة من روسيا أو أوكرانيا نتيجة الحرب، لا تجد مُعظم هذه الدول ما يكفي من العملة الأجنبية (وغالبًا يكون الدولار الأمريكي) لشراء احتياجاتها من مصادر أخرى، مثل أستراليا أو من أمريكا اللاتينية.

أحدث تخبط مالي شاهدناه كان في بريطانيا؛ حيث أعلن مستشار الخزانة البريطاني المستقيل كواسي كوارتنج عن حزمة تحفيز اقتصادي تعتمد أساسًا على إجراء تخفيضات ضريبية بنحو 45 مليار جنيه إسترليني دون توضيح آليات تمويل هذا المبلغ الضخم في الميزانية العامة للدولة، الأمر الذي تسبب في انهيار الأسواق والعملة البريطانية، ودفع بالمستشار إلى تقديم استقالته والتي تبعتها استقالة رئيسة الوزراء ليز تراس، التي لم تمكث في السلطة سوى 6 أسابيع.

ويبقى القول.. إنَّ كل ما سبق وما قد يحدث خلال الفترة المقبلة خصوصًا مع صعود أحزاب يمينية إلى سدة الحكم في دول أوروبية وعلى رأسها إيطاليا، إلى جانب استمرار ذات السياسات الاقتصادية التي تفاقم التضخم، يعزز الفرضيات غير المُتفائلة بشأن الاقتصاد العالمي وما ينتظره من ركود عميق، ولا سبيل سوى البحث عن حلول توافقية بحيث لا يكون النمو الاقتصادي في دولة بعينها قائماً على سقوط اقتصادات أخرى، ولا سيما الناشئة منها.