"جعفرية الطواونة" الأكياس ما بين "نغزى" و"الحباس"

 

ناصر أبو عون

nasser@alroya.net

هنا في سمائل الفيحاء.. الشعر يتدفق في أمواه الأفلاج، وبهاء اللغة يُنضِّر الوجوه، والطبيعة تنطبع صورا ثرّة نابضة بالحياة في قصائد الشعراء، وتحت عرائش كل نخلة سمائلية بسط الفصيحُ رداءه، وأرسل النسيمُ موسيقى الشعر قبّراتٍ تصطف  في "سماء الله" تردد "نشيد الماء"..

هنا ومن قلب وادي سمائل؛ وعندما ترفع رأسك، (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)، وعلى إثر "حركة الصفائح التكتونية" منذ 542 مليون سنة تكوّن صدع جيولوجي كبير، فشطر جبال الحجر ما بين شرقية وغربية، وصار بعد حين من الدهر المعبرَ الاستراتيجي بين (داخلية عُمان) و(سواحلها) فصار "حلقوم عمان" وخطّ دفاعها أمام جحافل المستعمرين والغزاة، وتدفقت الأمواه من الأفلاج الجارية على جانبيه فأخصبت الشقوق العِطاش ما بين أعلاه وأسفله فصارت "الفيحاء" التي جمعت عبر تاريخها الطويل ما بين (إمارات أربع)؛ فأما الإمارة الأولى فكانت "إمارة الإسلام" والتي انعقد لواؤها للصحابيّ مازن بن غضوبة أول من أسلم من أهل عُمان، وأمّا الإمارة الثانية فكانت (إمارة البيان) للشاعر عبد الله بن علي الخليلي شيخ شعراء عُمان (29 أغسطس 1922 – 30 يوليو 2000)، وأمّا الإمارة الثالثة، وهي إمارة الفقه والقضاء وكانت لداهية العلماء الشيخ عبيد حمد بن عبيد بن مسلم السليمي (1280هـ/ 1390هـ)، وأمّا الإمارة الرابعة والأخيرة فهي إمارة الإمامة والرئاسة تحت راية إمام السلام محمد بن عبد الله الخليلي [1919 - 1954].

وهناك وفي القلب من وادي سمائل وعلى أسوار (الجعفرية) الواقعة في القلب من ["نَغزى"] مصبّ فلجيّ (الدَّغالي)، والفرصخي) أنشد أمير شعراء الغزل [خميس بن سليم الأزكوي السمائلي (1870- 1935)] (ما بين "سِحْرا" و"نُغزى".. قلبُ المتيَّمِ يُغزى)، وعلى أعتابها صدح أمير البيان وشيخ شعراء عُمان عبد الله بن علي الخليلي مفتتحا قصيدته: (سباق الأعنة) بالوقوف على الأطلال منشدًا: (خليليّ من أحياءِ بكر ابن وائلِ.. قِفَا بي على [الحِبَّاس] وقفةَ باسِلِ) مشيرًا بـ"الحِبَّاس" إلى الحِلَّة، وتتواتر لفظة "الجيوانيّة" علمًا عليها، وهي موطن وكنف داهية العلماء وأمير القضاة والفقهاء أبي عبيد حمد بن عبيد بن مسلم السليمي في سمائل وبدبد للإمامين الخروصيّ ومن بعده الخليليّ.

تفتح الجعفرية أحضانها لهبّات نسيم شرقيّة مُحمّلة بزخات العطور المنبعثة من أكمام الورد، وأكواز الطلح المنضود المتفتح في محلة (سحراء- محلة الإمام محمد بن عبد الله الخليلي وسكنى بني رواحة)، ومن جهة الغرب تتأمّل الجعفريّة بوجهها الصبوح براحة "الشرجتين" موطن الأصالة والفخار موئل وسكنى (بني هناءة بن مالك بن فهم)، ومن الشمال تتمايل أشجار نخيلها فيسّاقطُ حنينها رطبَا من الملاحة على (القرواشيّة) موطن الكنود سدنة العلم ورُهبانه وموئل قبيلة (السليميّ) ومسرى الأفخاذ الشرفاء من (الرواحيين)، ومن أعتاب بابها الجنوبيّ تطل على (العرقوب) مهوى (البكريين)؛ وهم من [هناء] بالمد، بطن من طيء، وهم أولاد سعد أبو علي نسب واحد، وفي مساكنهم ومناصرنهم بعضهم بعضًا) وِفْقِ تعبير صاحب كتاب إسعاف الأعيان في أنساب أهل عمان.

وتشاء الأقدار أن تكون المسافة بين (جعفريّة الطواونة) و(الحِبَّاس) في (الجيوانيّة) وهو مَحلّة وسكن (للشيخ العلامة عبيد حمد بن عبيد بن مسلم السليميّ) فرسخين لا أكثر فأورث علمه ونباهته وفقهه وحنكته للقابضين على جمرة الصلاح من جيرانه، إلا أنّ مريدَه وتلميذه الشيخ القاضي صالح بن عامر الطائي وأولاده [عيسى وموسى وأحمد ومحمد] ومن وراءهم حفيده (الشيخ القاضي الشاعر هاشم بن عيسى)، التصقوا به ففازوا بحسن المجاورة، وورثوا جمرة العلم المُتقدة من راحتيه، واستبصروا على يديه فنون السياسة والدهاء، وتمثّلوا به في أحكام الشريعة والإفتاء؛ وقطفوا من شجرة فتاواه ووعوا (خزانة الجواهر في الفقه) وخطّوا بأقلامهم ما فاض به بحر أنواره من (بهجة الحنان في وصف الجنان) و(قلائد المرجان)، وفهموا أحكام الشريعة الغراء بعد أن درسوا على يديه (العقد الثمين في الدعوى واليمين)، وأحاطوا بما بين دفتيّ(تبصرة المهتدين)، واستوقدوا شعلة التوحيد من معمدة تصانيفه المشهور بـ(الشمس الشارقة)، وأجادوا  فن الشعر وعلم القضاء بعد أن استظهروا كتابه الموسوعيّ (هداية الحكام إلى منهج الأحكام). وبعد حين من الدهر صار (الشيخ القاضي صالح بن عامر الطائي وابنه الشاعر عيسى بن صالح وحفيده هاشم بن عيسى الطائي) أعلاما يُشار لها بالبنان، ومَعين نبوغٍ لا ينضب عطاؤه حتى اليوم، وخزانةً مكتنزةً بأصول الفقه ومراجع في القضاء أبوابها مشرعة لا تُوصد، تشعُّ منها أنوار العلوم الإسلامية، تستضوأ الأحكام والأصول من مشكاة السابقين الأولين، لتروي ظمأ العقول التواقة للمعرفة من مصاصة اجتهادات علماء عُمان النابغين، وتنير الدروب المُعتمة بأنوار الأقطاب الأماجد النابهين.

وإلى اليوم مازال الطواونة وأحفادهم يقطنون (الجعفريّة) ومن أوقافهم فيها أربعة: أولها [مسجد الجعفرية في (المجازة)] ويجري من تحتها (فلج الفرصخي)، وهي مصلىّ مخصص للنساء. وثانيها (بيت العود) وهو لجدّهم الأكبر القاضي صالح بن عامر بن صالح الطائيّ، وثالثها (البيت المشترك) وهو وقف خالص لأبنائه وأحفاده وعاش فيه (هاشم وحمود وعلي بن موسى)، ثم أصبح ملكا خالصا لـ(سالم بن محمد بن أحمد وأخيه علي بن محمد بن أحمد)، ورابع هذه الأوقاف (سبلة جعفرية الطواونة) إلا أنها تهدّمت وسقطت حيطانها. وإلى اليوم مازال الطواونة الأحفاد يتقلّبون في أفياء (الجعفريّة)، وينعمون بذكرى أجدادهم تحت ظلال أشجارها، ويتشبثون بأوتاد جذورهم في طينةِ أرضها الطيبة، ويدبُّون عليها صباحَ مساء، ويطبعون آثارهم على جدران أزقّتها وحاراتها، ونذكر منهم: (أحمد بن صالح بن أحمد الطائي، و الوارثون  من علي بن محمد بن أحمد الطائي، وأحمد بن علي بن موسى الطائيّ، والدكتور عبد الله بن حمود الطائي).