المدينة التي تخون القرية.. «انهزمت»!

 

د. مجدي العفيفي

(1)

‏في أول يناير من عام 1980 أجريت مواجهة نقدية بين المُبدع الكبير الدكتور يوسف إدريس والأستاذة العظيمة الدكتورة فاطمة موسى وكنت الطرف الثالث في هذه الجدلية بينهما، إذ نظمتها وأدرتها على صفحات جريدة (الأخبار) ويومها وجهت الدكتورة فاطمة موسى للدكتور السؤال التالي: المدينة في أعمالك القصصية دائمًا تخون القرية، فماذا أنت قائل؟ قال يوسف إدريس: "القرية المصرية وجدت في الوجدان المصري أقوى من القرية الإنجليزية والروسية، ذلك لأن القرية في مصر هي الأصل حتى في حياة المدينة".

(2)

واستدعيت إلى الذاكرة سطورا من هذه المواجهة وهذا المشهد الرفيع في الشكل والمضمون بين قامتين، وقيمتين كبيرتين في النقد والإبداع، وأنا أتلقى العزاء في وفاة اثنين من أهلي قبل أيام، في مشهد اجتماعي ومجتمعي وجمعي رائع، يشي بالكثير من الدلالات، والجميل من الإشارات، والعديد من الشفرات، لمن يُريد أن يذكر أو أراد جمالا..

ثلة من القيم التي تنتظم القرية المصرية ليس لها مثيل، في موجات مُتلاحقة من البشر من كل صوب، في أجواء قريتي «سنهوت» بمحافظة الشرقية، ‏ قرية من أكبر وأشهر عناوينها السياسة والصحافة والثقافة، لها تاريخ مع الوفديين الحقيقيين والأحرار الدستوريين واليساريين والسلفيين والتنويريين، وهي إلى المدينة أقرب في قسماتها العصرية، إلا أنها تحتفظ بقسماتها النقية، وتعتز بملامحها الأصيلة، ولا تسمح لقانون «المدينة التي تخون القرية» أن يتفاعل معها، إذ إنَّ لها ماضيها التاريخي الممتد إلى العصر الفرعوني، مثلما لها حاضرها السياسي بشواهده، وطابعها الثوري بمشاهده.

(3)

ليس فقط لأنها مسقط رأسي، ومُفجرة طاقتي الروحية والمعرفية التي لم يطمسها إنس ولا تكنولوجيا، وليس فقط لأنها مصدر أمان وتأمين لحياتي المتوترة كمواطن عالمي تنسحب عليه مجريات الأمور بحلوها ومرها.. بل أيضًا لأنها قرية ذكية ذكاء اجتماعيا وسياسيا وأدبيا (تتكرر في قرى مصرية لا حصر لها)؛ حيث أنجبت عشرات العلماء والباحثين وأساتذة الجامعات والمتخصصين في العديد من المجالات النادرة، ثم هي (صحفيا وإعلاميا على سبيل المثال، لا الحصر) بلد الصحفي الكبير توفيق دياب صاحب جريدة «الجهاد» الشهير قبل ثورة 1952 وما بعدها، وقد ترك ذرية كثيرة من الأبناء والأحفاد صحفيين وسياسيين وإعلاميين، منهم المهندس صلاح دياب صاحب جريدة «المصري اليوم» والمهندس أكمل قرطام رئيس حزب المحافظين وصاحب جريدة «التحرير» والراحل سامي دياب -جريدة «الأهرام» والمذيعة التليفزيونية الراحلة سامية دياب، ومجموعة من الشباب الجُدد المنتشرين في بلاط صاحبة الجلالة. قرية تضم مختلف الأطياف السياسية والشرائح الاجتماعية بحراكها الذي لا يعرف ولا يعترف إلا بالغليان الإيجابي الذي يستدعي الإشارة ذات التردد العالي، والبشارة التي تفيض بين الحين والحين، والشرارة التي تشعل الحماس الجمعي.

(4)

‏كل ذلك طاف بالذاكرة وأنا في "الدَّوَّار" أتلقى العزاء من ناس نعرفهم وناس من بلدان مجاورة، قيمة اجتماعية تحمل معنى التضامن في أروع صوره، معظم الناس لا يعرفون الذي توفي، لكنهم يقدمون الواجب، والعزاء واجب، ويأتون بدافع الرغبة أيضًا، وقس على ذلك مئات المشاهد والشواهد الحية على التكافل الاجتماعي بين أبناء البلد الواحدة أو القرية الواحدة.

والقرية في مصر، لها شأن عظيم يفوق المدينة ألوف المرات، التراحم والتكافل التفاعل والمبادئ، الوقوف بجانب بعضهم البعض، في منظومة قيمية، ولذلك يؤكد لنا التاريخ البعيد والمنظور، أمس واليوم وغدا أيضًا، أنَّ من يقلب التربة المصرية من خلال القرية يكتشف الجواهر والمعادن، والنَّاس معادن.

معظم عمالقة الفكر والعلم والأدب والإبداع والموسيقى في مصر كلهم أتوا من القرية، ولدوا في تراب مصر، وكل من يُريد للوطن أن ينصلح حاله ويستوي ويتتطور ويقوى، لابد أن يبدأ من القرية.

الإبداع الخلاق يبدأ من القرية، فهي النسخ الصافي للشخصية المصرية، في القرى والكفور وفي المناطق النائية في أقصى الصعيد في قلب الدلتا في كل مكان تولي فيه وجهك.. في الريف المصري تجد مقومات الشخصية المصرية، مقومات النجاح للدولة المصرية، ‏الخير كله.. الأرض الخصبة.. اليد العاملة.. ابن البلد الذي يعطر وجهه بتراب الأرض، وعطاءات الأرض المصرية الطيبة التي لا تقبل أن تنبه إلى طيبا..

من أراد الرقي بالمجتمع المصري فليبدأ من القرية، وأي صاحب قرار - في الماضي والحاضر والمستقبل- يهمش القرية سيتعرض للتهميش.. والتهشيم أيضًا..! لكن أكثر هؤلاء لا يعلمون!

في القرية بما فيها وما فيها، تتراءى المشاهد التي تستدعي الشواهد وتختلط اللحظة الراهنة باللحظة الماضية باللحظة الآتية وأنا أرى وجوه أهل بلدي، أبناء قريتي السمر الشداد، والمثقفين رجالا ونساء، والجميلات ذوات الجمال البكر النقي، الذي لا تستطيع كل شركات التجميل في العالم أن تبلغ ذرة منه، هم وهنَّ في كل فروع العلم وميادين العمل.. إنهم أبناء الأرض.. أصحاب الأرض الحقيقيون وهم يدثرون أنفسهم بالرحمة والمودة والتكافل والتفاعل والروح المهيمن عليهم أجمعين.

(5)

من المفارقات.. أن القرية في الخطاب العالمي«المودرن» أصبحت بين عشية وضحاها، رمزا للتحضر والحضارة والنور والاستنارة؛ بل والتكنولوجيا والكونية، وصرنا نسمع ليل نهار تعبيرات من قبيل:العالم أصبح (قرية) كونية وقرية إلكترونية، والكون (قرية) تكنولوجية مصغرة!. هكذا تغيرت النظرة وممن؟ من الذين طالما روجوا في بداية المد الاحتلالي البريطاني والفرنسي والأمريكي والإيطالي للشرق المعذب بعذوبته في الأيام الخوالي، الشرق الذي ينتزع الأقنعة الآن من وجوه هؤلاء (!!).

كانوا يصفوننا بأننا مجتمع زراعي متخلف،  لا يستطيع الانتقال إلى مجتمع صناعي متطور، وكانوا يسوقون فكرة "ضرورة " و"حتمية " و"بُديّة" الانتقال من مجتمع القرية والفلاحين والمزارعين ،  مثلما يسوقون منذ فترة لعبة "العولمة" و «الشرق أوسطية» و«الكونية» راحوا يعزفون على مسألة القرية التي هي رمز للتخلف وأن المدينة تخون القرية دائما،  حتى صارت وهما كبيرا تجسد في كثير من الأذهان التي يسهل انقيادها ،  وشبحا جميلا في وجدان الذين انطلت عليهم اللعبة ،  وكم من الألاعيب البهلوانية تنطلي علينا.

ولجأوا في ذلك إلى الكثير من الوسائل والأدوات المشروعة وغير المشروعة والشرعية واللاشرعية حتى انتهوا من مص الدماء الشرقية ،  وامتصاص خيرات الشرق،  وأفريقيا على وجه التحديد،  وامتلأت بطونهم وجيوبهم ومصانعهم وقبعاتهم بخيرات الأرض الثالثة أو العالم المسمى بالثالث على حد زعمهم ! حتى إذا فرغوا من ارتشاف الدماء النقية الذكية المشبعة بالطهر والبراءة والمجبولة على الخير والسكينة والوداعة، وحاولوا فض براءتها وطهارتها،  فانحرفوا 081 درجة عن مقولاتهم البشعة في باطنها والبراقة في ظاهرها، وحولوا القرية بقيمها وأصالتها وأصولها، وجذورها وبذورها إلى لعبة سياحية و«موضة» عصرية..

لكن أهلنا في الريف يسخرون من هذه الألاعيب البهلوانية..!

ويجعلون أصحابها يصرخون متوجعين بـ«لغة الآي آي» على حد تعبير يوسف إدريس!

سلام على القرية المصرية.. بما فيها ومن فيها.