شكرًا مُربيتي الإماراتية

 

فاطمة الحارثية

 

أمل، رقية، فاطمة طارش، خديجة، جينا، إلهام، سميرة وبشائر، حصة، سارة  وغيرهن الكثير من زميلات الدراسة رافقن نضج فكري ومشاعري، صنعن حيزًا لا يُمحى من ذاكرة طفولتي.  

بين مدرسة زبيدة وثانوية بنات عجمان نُقشت شخصيتي، وتعلمت صناعة القرار والشغف العلمي رغم صغر سني. ومع تنوع الجنسيات واختلاف أصولنا وأعراقنا، استطعنا أن نُذيب الاختلافات سواء اللهجة أو اللغة أو حتى الطبائع، استطعنا أن نضحك ونتجادل ونناقش القضايا المختلفة، صغارا كنَّا لكن قضية فلسطين والكويت والعراق والاتحاد الروسي والكثير مما كان يُشغل الرأي العام قبل ما يُقارب الثلاثة عقود، كان أساس الحوارات بيننا كلُ يدلي برأيه حتى الدين كان محورا أساسيا بسبب اختلاف المذاهب بيننا، كنَّا صغارا لا يُشغلنا إلا أحاديث الكبار والأخبار والجرائد والكُتب وشرائط الكاسيت.

لم تختلف قصتي عن الكثيرات من فتيات مقاعد الدراسة، لكن كان لها نكهة مختلفة بعض الشيء، رسخت في ذهني إلى يومنا هذا، لم أكن قد تجاوزت الثالثة عشرة من عمري، في المرحلة الإعدادية تحديدًا، عندما عصفت الخلافات الأسرية بمنزلنا الصغير بمنطقة الرميلة في عجمان. لم تكن الأسباب مُقنعة لطفلة في مثل عمري، لكن عدوى الغضب والخلافات كانت تُهيمن عليّ وعلى إخوتي الصغار، حتى شاء الله تعالى وجاء اليوم الذي قلب كل شيء وصرنا مستهدفين لغضب لم نعِ منه شيئًا. كنتُ في مدرستي، وإذا بطالبة تستأذن مدرستي لأُجيب على استدعاء من الإدارة المدرسية، ولبّيتُ النداء، وفي الطريق رأيته عن بعد، وكان صوته يُجلجل المكان كله ومن حوله الكادر الإداري للمدرسة، وبعض المدرسات، وشعرت بزلزال يخترق كل جسدي الصغير، فوقفت أنظر بعد أن قطعت مسافة بدت لي الدهر وأصبحتُ على مرأى منهم، انتبهت إحدى الموجودات لحضوري بسبب توجهه بقوة تجاهي، فاحتضنتني إحدى الإداريات كأنها تذود بجسدها دفاعًا عني، وشكلت الباقيات جدارًا فأرغمنه على أن يتوقف. أخذتني الأخصائية داخل غرفة الوكيلة وسألتني عن صلته بي فلم استطع النطق، فقالت لي أن أومئ برأسي نعم أم لا. كان صوته مؤذيًا ومرعبًا، فنظرت إليّ الوكيلة وقالت لي: هل تريدين ترك المدرسة هنا؟ أدمعت عيناي وأذابت عقدة لساني وقلت لها بكل ذرة مني "لا، أرجوك، لم أرغب بأي شيء في الحياة غير العلم". ونظرت إلى عينيها، تأملتني لبعض الوقت، ثم خرجت وأقفلت الباب من خلفها. سمعت المديرة وهي تقول نحن لا نستطيع أن نعارض ولي الأمر، لكنها وكيلة المدرسة قالت "لا"، بقوة وثقة، استمر الأمر طويلًا لكن أذكر تهديداته ووعيده لها، وردها الشامخ، لن "أسمح لك بإخراجها من المدرسة حتى لو فقدت وظيفتي"، بقي يكيلُ لها الكلام المؤذي ويطلق لعناته عليَّ حتى اختفى صوته، ودخلت بعد بعض الوقت إلى مكتبها وقالت لي: "لا تخافي.. أنا هنا، ولن أسمح له أو لأحد أن يؤذيكِ". حاولت بقية الإداريات ثنيها عن قرارها، فنظرت اليَّ بابتسامة وقالت لي: "فاطمة روحي صفك، إذا صار أي شي تعالي خبريني". خرجتُ من مكتبها، وأخذتني الأخصائية لغرفتها ولم تنل أسئلتها الكثيرة أي تجاوب مني.

مرَّ الكثير وكانت تعتني بجراحي مع ممرضة المدرسة وتحرص على ألا تلتهب، وكانت تردد على مسامعي دائمًا "لا تستسلمي"، صنعت مني شموخًا لا ينكسر، وعزيمة لا تُكسر، نقشت تلك الكلمات على قلبي وفكري. وأذكر آخر لقاء بيننا، دخولها عليّ رغم أنها لم تكن إدارية في مدرستي الثانوية، لجنة الثانوية العامة وربتت على كتفي وعيناها التي قالت وكياني الذي استجاب. لك أن تفخري مربيتي الإماراتية الغالية أني لم أخذلك وما زلتُ شامخة قوية كما أدرتِ أن أكون، إلى اليوم، برغم الظلم ومر الحياة، ما زلت فخرًا لا يلين، وعزًا شامخًا ثابتًا.

*****

سمو...

التربية الصحيحة والصحية نقشٌ لا تمحيه الظروف ولا يستطيع بشر أن يُزعزع ذلك اليقين، فارفقوا أيها المعلمون والمدرسون بأطفالنا وأطفال الأمة.

ألف شكر لك مُربيتي الإماراتية، وإن كان لي سؤال عند الله مُجاب، فإني أسأل لك الحظ العظيم والجنة بلا حساب.