الاجتهاد الشرعي.. وعلل البيئة

 

 

صبحي مجاهد **

 

مع تزايد مخاطر الاحتباس الحراري وتغير المناخ الذي يُهدد العالم بأكمله، وينذر بخطر تواجهه البشرية بسبب خطأ التعامل مع البيئة، فإنَّ فتح باب الحوار حول قضايا البيئة بشكل واسع، ونشر الوعي البيئي بين الشعوب وصانعي القرار، بات أمرًا ضروريًا.

وفي عالمنا العربي والإسلامي، يُنظر لقضايا البيئة على أنها قضايا مُستحدثة، ولابُد من مناقشتها بطريقة جديدة من مختلف المنطلقات، وتبقى الرؤية الدينية ذات تأثير هام في تلك القضايا لما تحمله من توجيه نابع من أحكام الشريعة ومقاصدها السامية، والتي تدعو إلى الحفاظ على النفس ومن ثم الحفاظ على البشرية من أي أخطار.

وهنا يظهر ضرورة السعي إلى الاجتهاد الديني في قضايا البيئة، وهو ما ظهر واضحاً في مؤتمر الأوقاف المصرية الأخير، والذي انعقد في دروته 33 حول "الاجتهاد.. ضرورة العصر" وشارك فيه علماء ووزارة أوقاف ومفتون من مختلف دولنا العربية، وكان من بينهم معالي الدكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان، والذي احتوت كلماته على رسائل مهمة حول الاجتهاد، كان من بينها التأكيد على أنَّ العمل في الاجتهاد يأتي من خلال أبعاد ثلاثة، تشمل التوسع في فقه الائتلاف والبناء على منظومة التآلف الإنساني، وبناء علاقات قائمة على العلاقات الإنسانية انطلاقا من خير الإنسانية والإصلاح.

إنَّ أهمية الاجتهاد الديني لحل علل البيئة نابعة من خطور الإهمال البيئي على حياة الإنسان، وهو ما وصفه بعض العلماء ومن بينهم د. عبد الله النجار عضو مجمع البحوث الإسلامية بقوله إن الاعتداء البيئي يعد وسيلة للقتل، وهو ما يتطلب إصدار تشريعات مستمدة من الشريعة الإسلامية تجعل من المساهمة في تلويث البيئة جريمة يتم المعاقبة عليها.

وفي حقيقة الأمر، فإنّ العدوان على البيئة يعد من باب جرائم الإفساد المُجرَّم شرعًا، والمخالف لنهي الله عز وجل في قوله تعالى: "ولا تفسدوا في الأرض"؛ فالإفساد في الأرض لا يتعلق بجرائم الإنسان ضد غيره من البشر، وإنما يشمل كل الجرائم التي تؤدي إلى إفساد حياة الناس وإفساد البيئة التي يعيشون فيها.

كما إن قواعد الشريعة الإسلامية العامة والتي تستمد من النصوص الدينية الثابتة تعد منطلقًا مهمًا في الاجتهاد نحو مواجهة مشاكل البيئة وجرائم التعدي عليها، وتضع حدودا لتصرفات كل شخص مع البيئة كقاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، والتي تجعل من الإضرار العام أمرًا مُحرّمًا، وقاعدة "الضرر يزال"، والتي تلزم كل من أضر بعمله أمرًا بيئيًا أن يرفع هذا الضرر، وغيرها من القواعد التي تمثل رؤية شمولية قادرة على الخروج بأحكام وقواعد تضبط تصرفات الأفراد والمؤسسات، وحتى الدول نحو البيئة والمناخ.

لقد أحسن مؤتمر الأوقاف عن الاجتهاد حين أعلن في توصياته الختامية موافقة المشاركين فيه من أكثر من 30 دولة، على أن التلوث البيئي مشكلة إنسانية تستدعي تضافر الجهود للقيام على حلها بالاجتهاد والبحث العلمي المستنير، والكف عن كل نشاط يسبب تلوثًا بيئيًّا أيًّا كان نوع هذا التلوث، وأكد أن الشريعة الإسلامية دعت للحفاظ على البيئة وحمايتها ورعايتها، والمحافظة على مواردها من الاستنزاف وسوء الاستخدام وكل ما يضر بها، ونهت نهيًا شديدًا عن الإفساد في الأرض، ومنه إفساد البيئة الذي يعد من التجاوز المنهي عنه.

إنَّ التجاوز البيئي بمختلف صوره بحاجة إلى اجتهادات مشتركة من مختلف المؤسسات العلمية والدينية، واجتهاد المتخصصين في مجال الشريعة والبيئة معًا؛ كي يتم الخروج بأحكام شرعية توضح جرائم التعامل مع البيئة وعقوبتها الملزمة على فاعلها، وتوضح أن اعتياد الأخطاء البيئية في الإضرار بالبيئة لا يُعد مبررًا لفعلها أو ينفي عن فاعلها جرم الاشتراك في هذا التعدي.

** صحفي مصري وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة

تعليق عبر الفيس بوك