العمل ثقافة

 

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

 

ثلاثة أجيال على أقل تقدير يعملون في مكان واحد يحملون ثقافات عمل مختلفة، يقول شاب عشريني نحن لا ننظر إلى الوظيفة على أنها جزء من حياتنا، وليس لدينا الولاء الكامل للمؤسسة، كما كان يفعل الجيل السابق، فالعمل ليس أداة لبناء المستقبل، بل وسيلة لجودة حياة، هذه النظرة قد نراها في سلوكيات الكثير من أبنائنا، في بيئات العمل ولا أحبّ أن أكون متشائمة، لكن الواقع يعكس إن البعض يسأل عن الحقوق ولا يبالي بالواجبات المناطة بهم.

الواجهة الاجتماعية وسرعة الترقي، أساس للوظيفة المناسبة على الأقل عند الكثير من أبناء الأجيال الحديثة، وغالبا ما تكون الوظائف، أو المهن التي تتطلب مجهودا بدنيًا، أو عملًا خارج المكتب عزوفًا لدى البعض، المشكلة ليست عمانية، بل عربية.. أصبحنا كمجتمع ننظر بدونية ، وتعالٍ لمن يمتهن العمل اليدوي، باعتباره شخصًا فاشلا أو لا يمتلك الشهادة العليا، لدرجة أن بعض الأسر ترفض تزويج بناتها لمن يعمل في المجالات اليدوية!

العزوف فتح مجالًا كبيرًا لأن تُغطَّى هذه المهن من خارج البلاد، على شكل مشروعات صغيرة يمتهنها الوافد، أو تجارة مستترة تنخر في الاقتصاد حتى في الدول التي كانت لديها نسب التوطين عالية، وقد عمّق ذلك من مشكلة البطالة، ولا نتوقع توطين الوظائف والمهن طالما ثقافة "العيب" حاضرة بقوة.

للعمل قدسية لدى الأغلب من الأجيال السابقة، التي عايشت الحروب والنكبات والظروف الاقتصادية السيئة، وكان ضمان العمل في وظيفة ثابتة في مكان يتمتع بالاستقرار هو حلم، وأساس لمفهوم المواطنة والانتماء للبلد، لذلك فهم ينتمون إلى المؤسسة كانتمائهم للبيت وأحيانا أكثر، ويصعب عليهم التكيف مع الأجيال الجديدة التي لها مفاهيم مغايرة عن العمل.

من أسباب ضعف التنمية في بلداننا، الطفرة النفطية التي غيّرت من مفاهيم المجتمع، وخلقت مفاهيم جديدة منها ثقافة العيب، والإتكالية والتعالي التي ولّدت التقاعس، والكسل في المجتمع، وعدم تأدية العمل كما يجب.فالإتكالية هي ما يجعل الإنسان دائم البحث عن الدعم العاطفي، والمادي والشكوى والاعتماد على الآخرين، ويتقاعس عن أداء واجباته، أو التهرب منها، يتحمل المجتمع مسؤوليتها لأنها نتاج الرفاهية التي غرستها الأسرة ومؤسسات المجتمع، فصنعت أجيالًا من الإتكاليين، والمتعالين، وهي السمة السائدة في المجتمعات الاستهلاكية.

من الملاحظ ضعف اهتمام البعض من الأسر، بالسعي لبناء ثقافة العمل في نفوس الأبناء، كما تهتم بالبحث عن أحسن المدارس، والملابس، وتكفل لهم حياة كريمة مرفهة، وهذا يعود لضعف مؤسسة الأسرة التي مرَّت بمتغيرات كثيرة في القرون الماضية، غيرت من قيمها ودورها الذي كان يشمل إعداد الأبناء للحياة، واعتمدت على مؤسسات التعليم ووسائل الإعلام والتكنولوجيا الحديثة في التعليم والتأهيل دون متابعة حقيقية لسير الأبناء أو الإسهام في إعدادهم.

إنَّ الأسرة هي عماد المجتمع، وحينما نتحدث عن الاستثمار البشري، علينا أولا أن نستثمر في الأسرة لأنها محور التنمية، وهي من تقوم بعملية التربية والتنشئة السليمة، وللأسف فإنَّ الجانب التوعوي للأسرة غائب في مجتمعاتنا، لأنها لم تحظَ بالاهتمام أو الرعاية المناسبين من قبل كل المؤسسات.

التعليم الناجح هو الذي يستطيع أن يعزز علاقته بسوق العمل، ومتطلباته من مهارات وتخصصات، من خلال مناهج تزرع قيم العمل، وأهميته لبناء المجتمع، فلا جدوى من تعليم لا ينمي مهارات، ولا يبني وعيا ، ولا يؤسس قيما. وثقافة العمل باتت مادة صماء لتعليم مهارات بسيطة ولا تتطرق إلى تغيير ثقافة، وما نراه اليوم في بيئات العمل وتفاقم مشكلة الباحثين عن عمل، انعكاس تجاهلنا لأهمية المحتوى الفكري، والثقافي الذي يجب أن يحمله الأبناء، لبناء المجتمع والنهوض به.

ثقافة العمل ليست تصنيف الوظائف، والمهن، ودورات تدريبية، وقوانين، وجزاءات.. هي تتعدى إلى سلوكيات عمل وأخلاقياته. ولا يمكن أن نراهن على الوعي المجتمعي لا سيما في ظل غياب برامج تعنى بتعزيز ثقافة العمل داخل المؤسسات وفي المجتمع.

متى تتغير نظرتنا للمهن؟ لا توجد مهنة كبيرة، وبعضها معيبة وأخرى حقيرة، فالكل مساهم في البناء، ولا أحد أقل أهمية عن الآخر، لأننا كبشر لدينا قدرات مختلفة.. وكل مُيسّر لما خلق له. في بعض المجتمعات نرى حرصًا من العاملين على أداء وظائفهم على أكمل وجه، حتى وإن كانت وظيفة صغيرة.

ترى كبار السن ممن تعدّوا عمر الستين يعملون في النجارة، والفلاحة وغيرها من المهن دون كلل، أو ملل، أو خجل، وفي مجتمعات أخرى نرى اللامبالاة، والغش والتملص من الواجبات التي تُعدّ من مهارات العمل التي يتفاخر البعض بامتلاكها!

تتجه الدول إلى دعم العمل المهني واليدوي بإستراتيجية متكاملة تشمل تغيير ثقافة العمل السلبية، وجعله جزءا أصيلًا من خططها في معالجة مشكلة البطالة والباحثين عن عمل، كون المهن حلقة هامة في الاقتصاد، وتساهم في فتح مجالات عمل، وموارد رزق للشباب، دورنا كمجتمع أفرادًا ومؤسسات أن نحفز الشباب الذين اختاروا الطريق الصعب وعملوا في المهن اليدوية، كالنجارة والصيانة.. وغيرها بخطط تسويقية وبرامج تدريب وقروض ميسرة بلا فوائد، وأن ننوع في النظام التعليمي، بحيث يشمل التعليم المهني والفني، وأن يبادر الإعلام بخطط وبرامج لتغيير ثقافة العمل السلبي في المجتمع.

إنَّنا نعوّل على الجيل الجديد لبناء المستقبل، وتطوّر فكره، فهم الاستثمار الحقيقي الذين سيحملون راية البناء، والنهوض بالمجتمع، ويحملون من المعرفة ما يكفيهم لتحمل مسؤولية المستقبل.والمجتمعات تتطور بالفكر، والعلم والقيم، فهل هم مستعدّون لحمل المسؤولية وأداء المهام بما يليق بالوطن..هل قمنا بتسليحهم بما يتوافق مع متطلبات المستقبل؟