انتخابات الكويت وامتحان "وثيقة القيم"

 

 

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **

إنَّ أخطر ما يهدد مستقبل أي مجتمع بالانغلاق والجمود، سعي من يعدون أنفسهم حراسًا للقيم، لفرض رؤاهم عليه، وصبه في قالب واحد، عبر ما سموه "وثيقة القيم"، والتي يرونها مبادئ وثوابت دينية، يمتحن بها إيمان الشعب الكويتي ومن يترشح لتمثيله، وما هي بمبادئ ولا بثوابت!

فمنذ متى كان "منع الاختلاط" من الثوابت؟! لقد شرَّع الإسلام الاختلاط في الطواف والسعي في بيت الله وبقية مناسك أداء الحج، ولم يخصص مسجدًا للنساء وآخر للرجال، وكان المسجد النبوي الشريف يؤمه الرجال والنساء على السواء على امتداد سنوات حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده.

لم يأتِ هذا الدين لسكان الجزيرة العربية؛ بل لجميع البشر، وما كان لدين جاء للناس كافة منع الاختلاط. إنما حرّم الإسلام الخلوة لا الاختلاط، فهل نحن أغيَر على دين الله من صاحب الدعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي ترك النساء يشهدن معه الجماعات صفوفًا حاشدة خلفه طوال عشر سنين من الفجر إلى العشاء.

الاختلاط هو الأصل في الإسلام، وكان المجتمع الإسلامي الأول مختلطًا، بدليل أن الإمامين البخاري ومسلم خرّجا في صحيحيهما أكثر من 300 واقعة لقاء بين الجنسين في مختلف المجالات. أما الفصل بين الجنسين، فقد حصل في عصور الانحطاط، بضغط العادات والتقاليد والغيرة المَرَضية، فتم حجب المرأة وعزلها عن المشاركة العامة، فانتشرت الأُميّة، وعمَّت الجهالة وخيَّم التخلف.

المبادئ والثوابت والمحرمات أحكام محصورة، وهذا من رحمة الله ويسره بعباده، ورفعًا للحرج والعنت عنهم "يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ"، وهي لا تشكل إلا مساحة ضيقة في دائرة الأحكام. ومنهج الإسلام وهديه يهدف إلى توسيع دائرة المباحات وتضييق دائرة المحرمات، فلماذا يسعى البعض إلى توسيع دائرة المحرمات؟!

إن "وثيقة القيم" التي يراد تقييد المرشحين بها ومن ثم فرضها على المجتمع الكويتي، مع احترامي لنوايا واضعيها، إنما هي قراءة ضمن قراءات أخرى لمكونات وأطياف المجتمع الكويتي لهم رؤى مختلفة، وليس من الديمقراطية إقصاء قراءات الشركاء الآخرين ورؤاهم (الوطنية والدينية والمذهبية)، بحجة أنه رأي الأكثرية؛ فذلك استبداد يقوِّض المبدأ الديمقراطي.

على المجتمع الكويتي أخذ العبر من تاريخ المجتمعات التي تحكم بها أصحاب القراءات الآحادية: دينية كـ"طالبان" أو قومية كـ"البعث"، والذين كانوا دعاة قراءة آحادية وطلاب سُلطة، فرضوا قراءتهم الآحادية فكانت العاقبة خسرانًا، فهل يُراد جرّ المجتمع الكويتي ذا الماضي البحري والمدني العريق (الثقافي والفني) إلى نهج الانغلاق؟!

يعتقدون أنهم بوثيقتهم يخدمون الدين والوطن، وما يخدمون إلا أنفسهم وأجندتهم السياسية .

ويبقى طرح تساؤلين:

  1. ما تفسير ظهور الوثيقة في هذا التوقيت؟

مجتمعاتنا أميل للمحافظة على قيمها وخصوصيتها وهويتها، ذلك أمر طبيعي ومفهوم يصب في تعزيز "مناعة المجتمع"، لكن الغلو في "التحصينات" ينقلب "هوسًا" ويخنق المجتمع ويشلّ إبداعاته، ويتحول إلى حالة تسمى "المناعة المرتدة"، وهي حالة نمو مفرط لجهاز المناعة يفتك فيها خلايا الجسم السليمة.

أتصوّر أن وثيقة القيم ما هي إلا حالة من حالات "المناعة المرتدة" أو "ردة فعل" تجاه كل ما تمثله طروحات الليبراليين من تهديدات موهومة لدى أصحاب الوثيقة لما يعتقدونها هوية وقيمًا ثابتة.

  1. ما مستقبل الوثيقة؟

الوثيقة تشكل طرحًا فكريًا مُغاليًا يُختبر فيه إيمان المجتمع الكويتي، والغلو بكافة ألوانه فكريًا أو رمزيًا أو ماديًا لا مستقبل له، والشعب الكويتي سيرفضها.

** كاتب قطري