أنسنة المدن.. نظرة ورأي!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"المدينة التي تدفعك إلى التفكير في المستقبل هي مدينة عظيمة، ولذلك عليك أن تنصت لها جيدًا" ياسر حارب.

 

أتعمدُ غالبًا في ما أكتب ألّا أدخل في خِضَم التعريفات العلمية، والمفاهيم الأكاديمية وضباب المصطلح؛ لأنَّ الأمر ببساطة أنه لكل مقام مقال، فما يُكتب في مقال سريع وكلمات قد لا تتجاوز سبعمائة كلمة في قطعة واحدة أو عمود واحد، لا يحتمل إقحامه بالكتابات ذات الشأن الأكاديمي أو العلمي أو حتى التقريري، سيما وأن الغرض إظهار فكرة ما، يُسلِط عليها الكاتب الضوء من خلال سطور قليلة، وهنا أتذكر رأي أحد الكتاب الصحفيين منذ سنوات أن الكاتب الصحفي ليس ملزمًا حتى بكتابة هامش وذكر وتدوين مراجع معلوماته؛ لأنه يكتب مقالًا صحفيًا وليس بحثًا علميًا.

ومن خلال متابعتي لبعض الأمور المتعلقة بالعمران وبناء المدن الجديدة وتطورات العمارة الحديثة، لفت نظري ومنذ سنوات الاتجاه العالمي لمبادئ وقيم "أنسنة المدن"، وهي بما يعني جعل المدينة تتنفس إنسانيًا من خلال تواردها مع حاجات ورغبات الإنسان؛ حيث لا يتم التعامل مع المدينة كمبانٍ وحجر؛ بل حاجة إنسانية مهمة. وأصبحت العديد من دور الهندسة المدنية ومخططات المدن مهتمة بأنسنة المدن، من خلال وضع مساحات خضراء مناسبة بالنسبة للمخطط العام المزمع بنائه؛ كمخطط لمدينة أو مجمع سكني أو حتى منتجعات سكنية أو سياحية، ومن خلال هذه المساحات الخضراء التي يُستفاد منها لتوفير هواء نظيف ووضع ممرات للجلوس، وإنشاء أماكن للمشي ولسير الدراجات الهوائية، وألعاب الأطفال وأجهزة لممارسة الرياضة في الهواء الطلق؛ حيث يكون الخروج من المنزل لممارسة نشاط رياضي أو لجلسات ضمن محيط المدينة أو المجمع السكني، مما يجعل المكان ليس حجرًا فقط؛ بل يوفر بيئة إنسانية مناسبة للإنسان.

وفي أيام كورونا الماضية وفي خضمها خاصة أيام حظر التجول، ازدادت الحاجة لمفهوم أنسنة المدن؛ إذ من كانت مدينته أو مجمعه السكني يحتوي على عدة إمكانات للساكن كمساحات المشي أو ممارسة الرياضة في الهواء الطلق؛ حيث أصبح هذا الساكن أفضل حالًا من الذين يسكنون في مناطق لا تحتوي على إمكانيات المشي المنظم (أقصد ممرات المشي الموضوعة لذلك) أو الذين يسكنون في أماكن مزدحمة ولا توجد بها مسطحات خضراء لاستنشاق الهواء النظيف، وممارسة الرياضة التي أصبحت حاجة إنسانية كحاجتنا للأكل والشرب والنوم.

عندما أتحدث عن أنسنة المدن ليس الموضوع وضع إمكانات كبيرة تكلف مبالغ طائلة، لا أبدًا إنما القصة لا تزيد عن وضع مسطحات خضراء بمساحة مناسبة في أي تجمع سكاني، ووضع أدوات التسلية ومعدات ممارسة الرياضة غير المكلفة، وهي ذات تكلفتها معقولة. القضية مبدأ وإيمان بأهمية ذلك وليس ترفًا أو رسم لوحة تشكيلية ميتة، فتنمية البشر يجب أن تكون أهميتها قبل تنمية الحجر، فبدون تنمية البشر لن تكن تنمية الحجر سوى بناء أطلال لا روح فيها، لأن أنسنة المدينة تجعل منها حياة تصبح المدينة ككائن حي، وليس حجرا وسط أحجار لا روح فيها ولاطعم ولا رائحة!

من الأمور الملاحظة هي فقر الحلول لمواقف السيارات التي أصبحت تأخذ حيزًا كبيرًا من المساحات، وأصبح الكثير من مخططي المشاريع لا يُتعبون أنفسهم بالبحث عن حلول لمشكلة المساحات الكبيرة المخصصة للمواقف. وهناك مَنْ وضع بناءً متعدد الأدوار، وهناك من اكتفى بالسهل وهو المواقف العادية، وأعتقد أنه من المهم أنسنة مواقف السيارات، بالبحث عن حلول. فمثلًا من الممكن استخدام أسطح مظلات المواقف لوضع شرائح لتوليد الطاقة الشمسية، ويمكن بناء خزائن صغيرة على الجوانب للاستخدامات المتنوعة (يمكن وضع أدوات تنظيف الشارع بها قبل وبعد استخدامها) هناك ألف حل وحل لكن هل هناك من يفكر بذلك؟!

القضية إبداعية لا أكثر..

في أحد اللقاءات المرئية في ردهات أحد المؤتمرات، قال الدكتور محمد الأسد (1) إننا في حاجة لإعادة المدينة للإنسان وليس للآلة، وهنا أعقب على عبارته التي اتفق معه بمضمونها بأن حتى الشوارع والتي تعد من ضمن أدوات المدن يفترض أنسنتها بمعنى أن هذا شارع مسمى باسم حدث تاريخي أو باسم فلان الفلاني (أيا كانت شخصيته)؛ إذ من الأفضل وضع لافتة مكتوب عليها بخط واضح وصيغة مختصرة وافية عن ماهية الحدث ومناسبة تسمية الشارع وياحبذا حتى كتابة من الذي اقترح هذه التسمية إن كانت جهة اعتبارية أم شخصا ما، والإشارة كذلك للشخصية وماهي إنجازاتها وسيرتها حتى يتثقف قاطنو المكان أو حتى المارين بهذه الأمور؛ إذ لا أعتقد بمعقولية تسمية شارع أو ميدان باسم حدث أو شخص ولا يتم بذات المكان التعريف بذلك!

المدينة ليست حجرًا فقط؛ بل تحتوي أنفاس الناس وتاريخهم وانتصاراتهم وهزائمهم ونزواتهم ورائحة مأكولاتهم، وأنشطتهم، وأفراحهم وأتراحهم، للمدن ذكريات تموت عندما لا تُوثَّق، ممرات المشى أهميتها كأهمية رص الحجر فوق الحجر، التشجير والتخضير وحتى نافورة الماء البسيطة في وسط مساحة خضراء تعطي رونقًا للمكان، أما قصة بناء مدينة أو مجمع سكني ولا يراعى فيه مفهوم أنسنة المدن، سيكون الأمر كئيبًا ومملًا، وأعان الله قاطني ذلك المكان.

******

  1. د. محمد الأسد: المدير المؤسس لمركز دراسات البيئة المبنية بالأردن، حديث خلال المؤتمر الدولي الأول لأنسنة المدن المنعقد في مايو 2018 بالمدينة المنورة، في المملكة العربية السعودية.