الأزمات وسياسة الهروب إلى الأمام

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

من المصائب التي تواجه المجتمع في هذه الأيام ما يُعرف بثقافة التكبر والتعالي على الآخرين، أو ما يعرف بالمسؤول الذي "يُطفِّش" الخلق ويزعج الناس ويعذبهم بسياسات وقرارات غير مدروسة وتفتقد إلى العدالة والحكمة، وبدلًا من حل المشاكل والتحديات التي تواجه المراجعين والمستفيدين من الخدمات التي تقع تحت إشرافه، يعمل على زيادة المشاكل وتعقيدها ويطلق على ذلك ما يعرف بـ"تنمية الأزمات" وتصديرها للمسؤولين الأعلى منه، ولا يدرك ذلك المأزق الذي وقع فيه دون أن يدري.

وبالطبع يعد هذا النهج كارثيًا بكل المقاييس، ومن هنا تحرج هذه النماذج من جلبها للمنصب العام، فيعتقد عن جهل أنه الوحيد والفريد في مجاله ويستمر في التفنن بتعذيب الضعفاء والمحتاجين باعتبار ذلك هواية وانتقامًا من الناس.

هناك مواطنون يعيشون في هذه الحياة تحت ضغوط كثيرة وتحديات عديدة نتيجة تراجع الحقوق الأساسية التي تتعهد الحكومة عادةً بتقديمها لمواطنيها من تعليم ومسكن وعلاج والعديد من الخدمات الأخرى كالكهرباء والماء ورصف الطرق... إلخ، وعلى وجه الخصوص الذين نعتقد بأنهم يقررون مصيرنا في مجال العمل والتوظيف، بل وحتى الإحالة إلى التقاعد والحصول الحقوق المتعلقة بانتهاء الخدمة؛ سواء من خلال اللوائح التي يشرّعها الوزير أو الوكيل بجرة قلم، فقد تتسبب في خسارة وظيفتك ومستقبلك، وتذهب إلى منزلك رغمًا عنك، والأسباب والمبررات جاهزة؛ منها شح الموارد والدخل بشكل عام، وكذلك الأزمات العالمية للاقتصاد، وانخفاض أسعار النفط في البورصات الدولية التي لا دخل للمواطن العادي فيها.

الحقيقة المُرّة تتجلى عندما تزدهر الأسواق وترتفع أسعار النفط في الأسواق العالمية وتتحول الموازنات المالية السنوية من العجز الكلي الذي على أساسه بُنيت قرارات التقاعد المبكّر إلى الفائض المالي بمئات الملايين. لا أحد ينظر هنا للخلف وخاصة للآثار الصعبة التي خلفتها تلك القرارات على المجمتع بشكل عام، والأسر التي تضررت بشكل مباشر. لكن يبدو لي أن هناك تذمر دائم من الذين شملتهم قرارات التقاعد؛ لكونها طُبقت بشكل انتقائي؛ إذ أعطي لرئيس الوحدة حق الاحتفاظ بنسبة معينة تصل إلى 30% من الذين أكملوا 30 سنة في الخدمة من الموظفين في تلك الوحدات، إذا رغب في ذلك، وبالفعل طُبِّقت تلك القرارات حسب رغبة الوزير ونظرته وعلاقاته بالعاملين في الوزارة. فهناك من تخلص من جميع الموظفين الذين أكملوا الثلاثين سنة بزعم أنه لا يحتاج لهؤلاء في العمل لوجود فائض في أعداد الموظفين.

لا شك أن هناك أسبابًا قهرية دفعت الحكومة لاتخاذ مثل تلك القرارات نتيجة تداعيات جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية والمديونية العالية التي كانت تعاني منها، وعلى الرغم من ذلك إلا أن معظم الذين نقابلهم من المتقاعدين اليوم يحسنون الظن بالقيادة الرشيدة، ويتطلعون لإعادة النظر في أوضاعهم التقاعدية وتحسين وضعهم المالي، خاصة وهم يرون الآن تحسن الأوضاع المالية للدولة. كما إن ازدواجية بعض القرارات الأخيرة المتعلقة بالسماح للأجانب بالاستمرار في العمل في القطاع الخاص بعد سن الستين قد ألقت بظلالها، وصدمت الكثير من المواطنين جراء هذا الاستثناء الذي منحته الوزارة المختصة للعاملين في القطاع الخاص من الأجانب، على الرغم من التسريح الممنهج للعمانيين في الشركات والمؤسسات. بينما يُفترض أن يستبدل هؤلاء الذين وصلوا إلى سن التقاعد من الوافدين، بالباحثين عن عمل من المواطنين الذين هم في قائمة الانتظار منذ أكثر من 12 سنة.

كلنا نتذكر قرار وزارة العمل العام الماضي بخفض الحد الأدنى للأجور، الذي يخدم بالدرجة الأولى أصحاب الشركات، ولا ينصف بأي حال من الأحوال العامل العماني الذي تكالبت عليه كل الأطراف التي يُفترض فيها أن تكون قراراتها متوازنة وعادلة، خاصة تجاه هذه الفئة الضعيفة التي تثابر للحصول على مصدر رزق يكفل لها الحياة الكريمة في هذا الوطن العزيز. القرار يقلل من أهمية الشهادات العلمية ويثبط الاجتهاد في ميدان العلم؛ لعدم وجود حافز مادي يقابل الشهادة الأكاديمية. فقد نصَّ قرار الوزارة على إلغاء الحد الأدنى للأجور المرتبط بالشهادات العلمية، والاكتفاء بـ325 ريالًا كحد أدنى للراتب الشهري فقط، حتى ولو كان العامل يحمل شهادة الدكتوراه!

لعل ما قاله رئيس الاتحاد العام لعمال سلطنة عمان حول قرار وزارة العمل، خير دليل على أن إدارة ملف الباحثين عن عمل في السلطنة تسودها الضبابية والتخبط؛ وفي حاجة ماسة لدراسات متعمقة لحل هذه المشكلة التي تورق المجتمع العماني منذ عدة عقود؛ إذ قال "إن الاتحاد تفاجأ مثل الآخرين بقرار إلغاء الحد الأدنى للأجور المرتبط بالشهادة والصادر من قبل وزارة العمل، موضحاً أن القرار يمس شريحة كبيرة من العمال، وكان من المفترض أن يأتي القرار بمشاركة ثلاثية من قبل أطراف الإنتاج الثلاثة"، مؤكدا أن القرار لن يخدم العمال. وأضاف رئيس الاتحاد في مقابلة إذاعية "القرار جاء في وقت خاطئ، وبطريقة غير متزنة. وهناك جوانب كثيرة من هذا القرار كان من المفترض أن تتم معالجتها، وكان من المفترض أن يتم معالجة بعض الجوانب في سوق العمل، ومن ثم إصدار مثل هذه القرارات إن كانت هناك ضرورة".

يبدو لي أننا نحتاج إلى مُراجعة الكثير من القرارات الوزارية والإدارية التي أثبتت الأيام عدم نجاحها، وذلك في العديد من الوزارات الخدمية.. فالاعتراف بالخطأ فضيلة قبل فوات الأوان.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

تعليق عبر الفيس بوك