الأم

 

سليمان المجيني

tafaseel@gmail.com

 

أول ما تتراءى لنا ذكريات الطفولة نتذكر شقاوتنا مع أمهاتنا، ومهما بلغ الواحد منِّا من العمر فلن تتجرأ ذاكرته على نسيان أمه، ومهما سافرت الذاكرة إلى البعيد أو تضخمت ملفاتها؛ فإنَّ ملف الأم يبقى الملف الأجمل والحاضر دون استدعاء أما استدعاؤه والبحث فيه فيأخذ عمرا بتفاصيله.

ما زال مجتمعنا يعظم دور الأم في المنزل، تنقلب الأمور على عقبيها بدون الأم، وتنكسر فهلوتنا بدونها، ثم نشتكي لها قساوة الأخوان، نحاول التَّذاكي على الأم لكنها تُقابلنا بالضحك والتصديق، نستدعي الطفولة الحية بذكرياتها، هي الأمن في غياب الأب، وهي الحنان المنتشر في كل زاوية من زوايا البيت وهي الملجأ، المخبأ والمأمن حتى من عقاب الأب، الأم ملكة غير متوجة إلا في بيتها، يصاب البيت بالشلل التام لو حدث مكروه لها أو شاء القدر وجودها خارج المنزل ليوم أو يومين، ومهما تسابق الأبناء لخدمة الأم فلن يفيها أحد حقها، فذلك ليس بتلك، إنها على استعداد لكل شيء من أجل طفلها.

حينما أراد الكاتب اليوناني نيكوس كازنتزاكي في رواية "زوربا اليوناني" وصف المرأة قال: إنها تفهم قوانين الدولة بطريقة خطأ، وإنها قاسية وغير عادلة، وغير مفهومة، وهنا وصف المرأة في تعاملها مع غير أبنائها، وصَفَ المرأة غير الأم، وصفها لتكمل أحداث مشهده الذي يكتبه لا غير، أما المرأة الأم فهي غير ذلك تماما، خصوصا حينما يتعلق الأمر بالأبناء، ستفهم كل شيء خطأ غير ابنها وستكون قاسية وغير عادلة لو كان دفاعا عن ابنها، ستكون شرسة وغير واضحة حينما يتعلق الأمر بكيانها.

تتلخص مهمة الأم في أوان عيشنا المترف أنها الطبيبة والطاهية والساعية والمرافقة والمرتّبة، والمعلمة والمربية، وهي المنبه والمقوّم، وهي القاموس والتقويم الهجري والميلادي، وهي المغسّلة والمنظفة، المغذية والساقية، وهي الخياطة لتوفير بعض البيسات، هي كل شيء في الحياة.

أدرك تمامًا أنَّ مهماتها أكبر من ذلك وأعمق ولن أستطيع حصرها في هذا المقال أو غيره، وبفقدها كل شيء يبدو مفتوحا لخيارات عدة ولكن كل تلك الخيارات أحلاها مر فبدونها لن نعرف الاختيار، بل لن نعرف أن نقدم على شيء دون خوف أو توجس، ستزول بركة الحركة وستزول حرية القرار، ستبقى الغصة ماثلة على الدوام، الأم هي القرار الحر وهي الحرية، الأمن سوف يشوبه الحذر.

لا ندرك تمامًا ما يريده الآخرون، وما هي الدرجة التي يمكن الوصول إليها لتجعلنا مقبولين لدى الطرف الآخر، وما يمكن تقديمه لنيل درجة الرضا، بوجود الأم لم نكن نعمل لذلك حسابا، اليُتم لا يبدأ بفقدان الأب بل بفقدان الأم، فابتسامتها في عينيك تكفي لأن تملك الدنيا، وتدخل القلوب أيما كانت، وتصبح أغنى الأغنياء في مقرك.

فقدان الأم شيء عظيم، وكأن جبلا كان أمام التحديات التي تتعرض لها، وكأنها البلسم الذي يشفيك من أمراضك وأوجاعك، وكأنها النور الذي يضيء دربك، الأم هي الأداة التي تقف من خلالها واثقا غير مهزوز أمام الآخرين، الأم هي التي تجعلك تطوي المسافات من أجل قُبلة على الرأس، وكنَّا نعتقد أننا نمسح بقُبلتنا تلك عتاب السنين لبعدنا، لكنها لا تساوي شيئا أمام صبر الأم وتجلدها بعصم رب كريم، والحقيقة أن الأم هي القِبلة الأسمى لفعل الخير في هذه الحياة.

انظر الآن إلى قيد الأم في الصغر وكأنَّه الحضن الآمن من الشرور، وإلى نهرها لنا وكأنه النصيحة المثلى من الوقوع في حفر المعاصي والذنوب، وانظر إلى التكاليف التي تحبس حريتنا وكأنها درس في الأخلاق وسمو في السلوك، انظر إلى جدالنا إنه عصيان مع سبق الإصرار ودنو الغاية، الأم رحم ممتلئ بالحنان وقلب يخفق خوفا علينا في كل نبضة وكل حركة منا أو بُعد، الأم هي الدنيا بتفاصيلها وهي الآخرة بنعيمها أو نارها.

أتذكر أمي -رحمها الله- وهي تملأ "الحِب" بمياه نظيفة جلبتها للتو من بئر بعيدة على رأسها أو جنبها، أتذكر أمي وهي تحمل على رأسها "شغنة الحطب" من بقايا الأشجار اليابسة البعيدة لتوقد من أجلنا النار وتطبخ أحلى الوجبات، أتذكرها وهي تنفث الرماد الذي يأتي على وجهها لتذكي النار فتثور أو تخمد لتعاود الكرة مرة بعد مرة؛ فتستمر الحياة ونسعد بيومنا رغم الظروف الصعبة، أتذكرها بأسى لانشغالنا عنها واهتمامنا بحياتنا.

أمي الصابرة المحتسبة تلقفها رب جبار ذات مساء، يجبر مرضها العضال فيمحيه بقدرته، مساءٌ نسينا فيه أنها هي الحياة كلها. الأمر المريح أنها مع رب كريم لطيف رحيم.

تعليق عبر الفيس بوك