"عدن" زهرة المدائن

 

خالد بن سعد الشنفري

 

لطالما داعبت "عدن" باليمن، تلك الجارة الكريمة لنا في ظفار مُخيلتنا في الستينيات من القرن الماضي ونحن صغارًا نشهد ما تصدِّره لنا من كل شيء تقريبًا من منتجاتها أو من إعادة صادرات تجارتها مع بريطانيا والهند ووجهات العالم المختلفة.

فما زال مذاق حلوى القوالب العدنية المغلفة بأوراق صحف الجرائد المصرية والعدنية في تلك الحقبة، باقيا في أفواهنا إلى الآن، والمعلومات المتفرقة التي نقرأها من تلك الوريقات بتلهفٍ من مواضيع صحف تلك الحقبة والتي فتحت شهيتنا للقراءة فيما بعد، وعنب الزبيب العدني (الرازقي) المُجفف اللذيذ والذي لم يعد للرز القبولي لدينا طعمًا بدونه، لانقطاع تجارة عدن عنَّا منذ زمن وروائح صابون اللوكس واللايف بوي الإنجليزية القديمة زكية الرائحة وزيت (سليط) السمسم الذي يدخل في كل بيوتنا وحياتنا كغذاء لأبداننا وشعرنا ومفتح ومرطب لمسام البشرة مرورا بالإيزار (الوزار) الذي نأتزر به إلى المحسر والسباعية من ألبسة إناقة الرجل التي نتمنطقها ورمزًا للرجولة والإباء إلى كوفية "أبو علم" وفوطة "أبو سيفين" إلى كل شيء خارجي تقريبًا.

لقد وصف أحد الرحالة الإنجليز الذين عاصروا عدن في منتصف القرن الماضي وعاصر دبي في القرن الواحد والعشرين، أن عدن كانت قبل 100 عام من الآن تضاهي دبي اليوم؛ بل وتزيد عنها بطبيعتها المُتميزة وشواطئها وجغرافيتها ودفء أجوائها ومعالمها الأثرية مثل "صهاريج عدن" التي يقال إنه تم البدء في بنائها قبل 15 قرنًا قبل الميلاد، وساعة "بج بن" عدن وبرجها الذي تمَّ تشييده في العام 1902، ومتحف عدن الوطني تلك التحفة المعمارية التي كانت قصرًا فيما مضى، وقلعة "صيرة عدن" التي صدت الغزاة على مر السنين، و"كنيسة كريتر" الموغلة في القدم، حتى إن البريطانيين أطلقوا عليها على استحياء مسمى "هاف لندن" أي "نصف لندن"، لكنها كانت في الحقيقة نسخة أفضل من لندن نفسها.

لقد كانت عدن تشكل أنموذجًا متميزًا لتكامل النشاط الاقتصادي والتنوع الإنتاجي، فقد كانت مصفاة نفط عدن أقدم مصفاة في العالم العربي والمنطقة كلها، وكان ميناؤها مركزًا لتخزين الفحم وتجارته وتزويد سفن تلك المرحلة به وأقيم فيها أول مكتب بريد وأول إذاعة عربية ودخلتها أفخم السيارات العالمية، وتناغم وتكامل كل ذلك مع شواطئها ومنتجعاتها الطبيعية الجميلة، وبها أقدم فندق فخم استضاف الملكة إليزابيث الثانية وما زال قائمًا إلى اليوم ومتفردة في عصرها في منتصف القرن الماضي.

وتعد عدن في اليمن مع ظفار بسلطنة عُمان، أهم منفذين استراتيجيين على بحر العرب والمحيط الهندي، وامتلكت المدينتان أنصع وأثرى نشاط تجاري قديمًا، وعلى مستوى العالم، لكن كان قدر ظفار أن تتوارى في القرون المتأخرة وتنزوي، فيما برزت عدن وتصدرت المنطقة في الجنوب العربي، وكانت خير حاضن لظفار الجارة الشرقية لها، وأهلها وتجارتهم وعبورهم عن طريقها إلى الخارج، حتى قيض الله لظفار وعُمان باني نهضتها الحديثة المباركة في 23 يوليو من عام 1970 المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- وصولًا إلى نهضتنها الحالية المتجددة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه. وحاليًا، الجارة عدن تئن نتيجة الأوضاع المعروفة، وتتفاعل معها قلوبنا وأفئدتنا؛ لأننا لا نريد أن نراها في آخر حياتنا إلا على ما كانت عليه وما عرفناه وعرفه العالم كله عنها.

يحز في أنفسنا أن نرى ونشاهد ونسمع عن عدن اليوم وما يحصل بها من انقطاع كهربائها التي أنارتها قبل العديد من مدن العالم بعقود، وعن طفح مجاريها في شوارعها العريقة، وعمّا يعانيه أهلها الكرماء النجباء الذين لا يستاهلون ما هم عليه اليوم.

لكننا على ثقة وأمل في الله، وهمم رجالها وأبناؤها النجباء، بأنها ستعود على ما كانت عليه وأكثر، فطالما كانت الحكمة يمانية، وطالما بعد كل هفوة صحوة، ومن كل أحرار العالم والغيورين من شعب اليمن عامة الذين يرون عاصمتهم الثانية وبوابتهم على المحيط إلى العالم، ستعود بإذن الله، ويعود كل اليمن أصل العروبة ومنبتها الأول، فلطالما كانت عدن واليمن بوابة العروبة وثغرها الجنوبي الأصيل.