صناعة التحالفات

حاتم الطائي

◄ التحالفات الدولية "حجر الزاوية" في استقرار النظام العالمي

◄ "منظمة شنغهاي" الحصان الأسود على مضمار السياسة الدولية

◄ دول الخليج بحاجة إلى تحقيق التكامل الاقتصادي الاستراتيجي

في عالمٍ يموج بالصراعات والاستقطابات القائمة على تضارب المصالح والأجندات الخفيَّة، وما يشهده الاقتصاد العالمي من تحديات عميقة وتراجعات حادة تنبئ بمزيد من التدهور حول العالم، بات الحديث عن صناعة التحالفات ضرورةً تؤكدها مجريات الأحداث، وحتمية تاريخية تفرضها الظروف الراهنة؛ الأمر الذي سيُحقق المزيد من التوازنات، لا سيما مع تشكُّل ملامح العالم الجديد، عالم ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية وتراخي النفوذ الأمريكي وانطفاء وهج الاتحاد الأوروبي.

والسياسة الدولية في جوهرها تستند على التحالفات، وقد كانت هذه التحالفات الأساس المتين للنظام الدولي الذي ساد العالم خلال القرن العشرين، ورغم أنَّ هذه التحالفات- في تلك الحقبة- انطلقت من أسس وأهداف عسكرية بحتة، لكن في المُقابل ظهرت تحالفات أخرى سعت إلى التوفيق والتعاون الدولي البنّاء الذي يضمن ازدهار وتقدم الأمم، علاوة على أنها تبنَّت سياسة الحياد في وقت كانت الدول تستيقظ على الحروب، ومن هذه التحالفات منظمة "دول عدم الانحياز"، والتي ازدهرت خلال فترة ستينيات القرن الماضي. وبعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، نشأت تحالفات جديدة، هيمنت عليها الولايات المتحدة، باعتبارها الدولة القوية التي لم تكتوِ بنيران الحرب ولم تتأثر بويلاتها كما كان الحال في أوروبا. وسرعان ما ترسخت مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتزايد النفوذ الأمريكي في أنحاء العالم، شرقًا وغربًا، حتى باتت "أوراق اللعبة كلها في يد أمريكا"، وهي المقولة السائدة التي ظل الكثيرون يرددونها منذ سبعينيات القرن الماضي.

وخلال العقدين الأخيرين، بدأت القوة الأمريكية تتراجع، لا سيما بعد الهزائم والخسائر المليارية التي مُنيت بها في أفغانستان عندما غزتها القوات الأمريكية عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، ثم العراق في 2003؛ حيث واجه الأمريكيون جحيمًا لم يكن أفضل حالًا من حجيم فيتنام! وتوازى مع ذلك ضعف البنيان السياسي الداخلي بالولايات المتحدة، وتعمق هذا الضعف في المنظومة الحاكمة مع وصول الرئيس الشعبوي دونالد ترامب، وقد كشفت الأحداث مدى الاستهتار الذي قاد به ترامب الولايات المُتحدة، حتى إنِّه احتفظ بملفات مُصنّفة على أنها "سرية للغاية" في أماكن مكشوفة خارج المقرات الرئاسية، فضلًا عن حالة الفوضى العارمة التي صاحبت خروجه من البيت الأبيض والاقتحام التاريخي الذي حدث في مبنى الكابيتول بالكونجرس الأمريكي.

وبينما يتراجع الدور الأمريكي خاصة مع وصول الرئيس الحالي جو بايدن للحكم، أخذت روسيا تفرض نفسها مُجددًا كقوة عظمى، عسكريًا (من خلال العملية العسكرية في أوكرانيا)، واقتصاديًا (عبر الغاز الروسي الذي يمثل شريان الحياة لأوروبا)، وسياسيًا من خلال علاقاتها مع الصين، وتحديدًا من خلال منظمة شنغهاي للتعاون، والتي يُمكن القول إنها ستكون أكبر تحالف سياسي واقتصادي وعسكري خلال الفترة المُقبلة، خاصة بعد تنامي التأثير الروسي وتعاظم الدور الصيني في الاقتصاد العالمي. وعندما ننظر إلى هذه المنظمة التي يتنامى نفوذها تدريجيًا، تتضح بعض الحقائق التي ربما لا ينتبه إليها البعض، فالمنظمة التي تتخذ من العاصمة الصينية بكين مقراً، تضم في عضويتها الصين والهند وكازاخستان وقرغيزستان وروسيا وباكستان وطاجيكستان وأوزبكستان (وهذه الدول مجتمعةً تمثل ثلث الاقتصاد العالمي)، أضف إلى ذلك أفغانستان وبيلاروسيا وإيران ومنغوليا والتي تنتمي إلى المنظمة بصفة "مراقب"، لكنها تسعى جاهدة للحصول على عضوية كاملة، علاوة على أنَّ المنظمة تضم كذلك دول: أرمينيا وأذربيجان وكمبوديا ونيبال وسريلانكا وتركيا بصفتهم "شركاء الحوار"، وقد أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد اختتام "قمة شنغهاي" قبل يومين حرص بلاده على الحصول على عضوية كاملة في المنظمة؛ بل والأهم من ذلك أن 3 دول عربية هي مصر والسعودية وقطر تقدمت بطلبات للحصول على صفة "شركاء الحوار" في هذه المنظمة، ومن المؤكد أنه سيأتي يومٌ تصبح كل هذه الدول أعضاءً في المنظمة، عندئذٍ فإنَّ كيانًا اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا عملاقًا سيكون قد تشكّل.

إذن نحن نتحدث عن عالم جديد، قد يبدو للبعض أشبه بفسيفساء متفرقة، لكن بمجرد اكتمال الصورة فإنَّ نظامًا مختلفًا سيقود العالم، وستنحسر الهيمنة الغربية، لصالح مساعي الدول المؤثرة في النظام الجديد لقيادة مسيرة النمو والازدهار، القائمة على التعاون البنّاء والمصالح المشتركة، لا على صناعة الخلافات ومبدأ "فرق تسد". ولا شك أنَّ دخول الدول في مثل هذه التحالفات سيعود بالنفع على مصالحها الوطنية، ويحقق أهدافها التي تصبو إليها، خاصة إذا ما علمنا أن هذه التحالفات لا تتعارض مع سياسات الحياد، أو التدخل في شؤون الدول، كما إنها لا تُملي شروطًا على الدول المنضوية تحت مظلتها؛ بل تتكامل فيما بينها من أجل خير واستقرار الدول، لا نهبَ ثرواتها وإبقاءها رهينة الإملاءات الخارجية وتعليمات المؤسسات الدولية التي تُحدث الأضرار الاجتماعية قبل الاقتصادية.

ويبقى القول.. إنَّنا في دول مجلس التعاون الخليجي، نُمثِّل قوةً حقيقية عبر خطط التكامل الاقتصادي، فلدينا الإمكانيات والقدرات والكفاءات البشرية، لكن ما زلنا لم نتخذ القرارات التي من شأنها أن تُعزز من وتيرة هذا التكامل؛ ليكون تكاملًا استراتيجيًا، وهذا يفرض على دول المجلس السعي الحثيث من أجل توحيد الرؤى والخطط والبرامج فيما يتعلق بإيجاد نمو اقتصادي حقيقي يعكس قوة اقتصاداتنا المحلية، ويعود بالنفع على دولنا.