أأكتبُ؟ ما أنا بكاتب! (2)

 

د. مجدي العفيفي

(5)

«أكتب ولو كان حاصل جمع القراء.. واحدًا!». عبارة رائعة.. في بلاغتها الصحفية، فائقة.. في سعتها المجتمعية، دالة.. في كثافتها الفكرية، تجذرت في نفسي وقد زرعها في تكويني أستاذنا مصطفى أمين، وأنا في مقتبل العمر أسطر خطواتي الأولى في عنفوان الصحافة، وكانت بمثابة شمعة، لا تزال متوهجة. قالها لي في حوارية نشرتها في (الأخبار) عام  1979 مع عمالقة القلم والفكر في الطابق السادس في (الأهرام) الذين لا يزالون أحياء بأفكارهم ورؤاهم التي تخترق الزمان والمكان والإنسان، صدقت يا أستاذنا..

لكن ..  لماذا نكتب ؟ سؤال في كلمتين..

إلا أن الإجابة تستغرق مسافات طويلة، وفي كل الثقافات يطل هذا السؤال برأسه، إذ يحار الكتاب وأرباب القلم وأصحاب الفكر في استقطار غواية الكتابة حتى لتتحول الإجابة إلى سؤال يبحث هو الآخر عن إجابة.. نظرا للغموض الشفيف الذي يتغشي كلمات الكتاب والمفكرين في هذا السياق.

لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ وما جدوى الكتابة؟

هل صحيح أنها نفس القضايا والموضوعات.. نفس المشاكل والإشكاليات.. نفس الهموم والدموع.. نفس الأفكار.. بل نفس اللغة.. من زمن بعيد؟ كثير من الكتاب يتطارحون هذه التساؤلات التي هي استنكارية أكثر منها استفهامية، الطرح يتجدد لكن الأجواء مختلفة،  وإن كانت غواية الصورة تتحدى هداية الكلمة، وتبذل وشاية الفضائيات جهدا جهيدا لتطفئ نور الكتاب.. لكن هيهات هيهات !.

(6)

إن في ثقافتنا العربية نظرية سباقة على جميع نظريات الفكر الغربي، هي«نظرية المعنى» التي صاغها «الجاحظ» قبل أكثر من ألف عام، وتتلخص في أن المعاني مُلقاة على قارعة الطريق يعرفها العربي والعجمي والبدوي والقروي والحضري، لكن الجمال يكمن في صياغة الحقائق، وهي جوهر نظريات الفكر النقدي في العالم الآن. وقد جاء في الأثر أن الفيلسوف «أرسطو» قد قنن كل أفكار الدراما في ست وثلاثين فكرة ينهل منها كل مؤلفي وكتاب الدراما في العالم.

في منظور كاتب هذه السطور، أن الكتابة وجود، أنا أفكر إذن أنا موجود، هي عملية تنفس وروح وحياة، أنا أكتب إذن أنا حي، عبر قضايا حائرة تثير القلق في النفس الأمارة بالفكر والكتابة، هموم لا تتوقف، أزمات تتخلق من أزمات، عذابات لا تعرف العذوبة، هي عندي سلاح معرفي لمواجهة العالم، ومواكبة الواقع ومحاولة فهم ما وراء هذا العالم، وفي نفس الوقت هي مصباح يرسل إشعاعه في الآفاق وفي الأنفس، هي نور يسعى بين الناس، يتمثل مشكاة تتألق صدقا، تتجلى حقا وصولا إلى الحقيقة، التي وصفها الفيلسوف الألماني «مارتن هايدغر» بأنها السيدة التي ينحني لها الجميع، هي لغتي هي مسكني وهي موطني ومستقري وهي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها ومن خلال عيونها أنظر إلى بقية أَرجاء الكون الواسع».

(7)

ولقد صدرت كتب عديدة في العالم، تستنطق الكتاب والمفكرين والمبدعين وتسجل رؤاهم، من قبيل «فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة» ترجمة لطفية الدليمي، و"الزن في فنّ الكتابة" لراي برادبيري، ترجمة بثينة العيسى، و«حياة الكتابة» ترجمة عبد الله الزماي، و«يوم من حياة كاتب» ترجمة على زينو، و«لماذا اكتب» لجورج أوريل، وغيرها كثير على رفوف المكتبة العربية والأجنبية.

تحمل هذه الكتب إجابات متباينة من مئات الكتاب في الشرق والغرب، وكل له منظوره، وكل له رؤيته، مقاربات كثيرة ومفارقات شتى، إلا أنها يربطها قاسم مشترك أعظم، إذ يصف صاحب نوبل الكاتب الشهير نجيب محفوظ الكتابة بأنها «نشاط إبداعي لا يستطيع أن يعيش بدونه، اشبع رغبة بداخلي في أن اكتب».

وعندما سُئل الكاتب التركي أورهان باموك الفائز بجائزة نوبل في الآداب: لماذا تكتب؟ قال: أكتب لأن تلك رغبتي، لا أستطيع تحمل الحقيقة إلا وأنا أغيّرها، أكتب حتى يعرف العالم أجمع أي حياة عشنا، وأي حياة نعيش، أكتب لأنني أؤمن فوق ما أؤمن به، لأن الكتابة عادة وشغف، أكتب لأنني غاضب منكم جميعا، من العالم كله، ولأني أستطيع المشاركة في الحياة الحقيقية فقط عن طريق تغييرها. طبقا لخطاب قبول جائزة نوبل 2006.

ويجمع النقاد على أن الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي كان يكتب من أعماق روحه ويصور كل الانفعالات والحالات النفسية التي يمر بها الإنسان حتى تبدو شخوصه كأنهم بشر حقيقيون يعيشون بيننا بمعاناتهم وصدق مشاعرهم» ووفقا لقول «تيري تمبست وليامز» في كتابه «العاطفة والصبر في الصحراء»: أكتب لتحقيق السلام مع الأشياء التي لا أستطيع السيطرة عليها، أكتب لاكتشف، أكتب لبدء الحوار. أكتب لتخيل الأشياء بشكل مختلف ربما يتغير العالم».

وهذه كلمة المفكر الألماني أليس هوفمان في مؤلفه «الكتاب الذي لن يموت»: "إنها أعمق رغبة لكل كاتب، وهو ما لا نعترف به أو حتى نجرؤ على الحديث عنه: أن نكتب كتابًا يمكننا تركه كميراث. إذا كنت تفعل ذلك بشكل صحيح، وإذا نشرها، قد تترك في الواقع شيئا وراء ذلك يمكن أن تستمر إلى الأبد".

وإذا كان الكاتب الروسي فرانز كافكا يلخص رؤيته في سطر واحد: «لكتابة هدف حياتي وجوهر وجودي» فإن المبدع جورج أورويل يحدد دوافعه للكتاب في أربع كلمات:حب الذات، والحماس الجمالي، ثم الحافز التاريخي، والهدف السياسي، وأكثر ما رغبت به هو أن أجعل من الكتابة السياسية فنًا».

وفي حين يرى المُبدع السوري حنا مينا أن مهنة الكاتب ليست سواراً من ذهب بل هي طريق شاق صعب. فإن غلوريا واتكنز يصف الكاتبة بأنها «نشوة مؤثرة، نكتب لأن اللغة هي الطريقة التي نحتفظ بها في الحياة» ويكتب الكاتب المغربي الطاهر بن جلون لأنه كما يقول «احب ممارسة الكتابة، وأحب أن اكتب بصراحة وبكل إحساسي، الكتابة بالنسبة لي ممارسة يومية ولا اعتبرها عملا شقيا بل اعتبرها واجبا قوميا، أقوم به بكل شغف». وأما الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي فيقول: «أكتب كي لا أموت، أكتب كي أستطيع مقاومة الموت وهذا يعني الكثير»..

و.. و.. صفحات وأسفار وتجارب أكثر من أن تحصى.

والى الملتقى مع شجون أخرى من هذه السردية.. إن كان في العمر بقية.