حكماء الملوك

 

د. صالح الفهدي

 

كثيرةٌ هي القصص التي يرويها التاريخ عن الملوكِ وحكمائهم، أو فلاسفتهم كمثل ما يحكيه الكتاب الهندي "كليلة ودمنة" الذي ترجمه من الفارسية إلى العربية عبدالله بن المقفع؛ حيثُ يروي الفيلسوف (بيدبا) قصصًا على لسان الحيوانات إلى الملك (دَبْشَلِيْم) وهو أحد ملوك الهند القدماء، تبيِّنُ له العلاقة الصحيحة بين الحاكم والرعية، وتدعو إلى التمسُّك بالقيم الفاضلة، والأخلاق النبيلة، والتحلِّي بالعادات الحسنة، بلسان الحيوانات حتى لا يستثير غضبه، ويكتبَ بلسانه حتفه.

وفي هذا السياق، يقول الباحث السوري خلدون النبواني في حديثه عن الفيلسوف والسياسة: "هكذا عرفنا عبر التاريخ ظاهرة مستشار الحاكم، أو فيلسوف السلطان، أو ناصح الأمير. عن هذه الظاهرة يمكن أن نذكر كثيرًا من الأمثلة منذ سعي أفلاطون لتقديم المشورة لدنيس رغبةً في تجسيد أفكاره المثالية حول الجمهورية و«تنشئة الملك الفيلسوف»، مرورًا بأرسطو مربي الإسكندر الأكبر، أو تقريب الخليفة أبي يعقوب يوسف لابن طفيل ثم لابن رشد، وسعي كريستين ملكة السويد إلى نصائح ودروس وكتب وأفكار ديكارت، أو علاقة توماس هوبز بكرومويل، أو تلك العلاقة المتوترة التي طبعت علاقة فولتير بفريدريك الثاني ملك بروسيا، بل إن هيغل نفسه المُنظِّر لفكرة «الروح الجميلة» كان يسمى -عن حق- فيلسوف الدولة البروسية" (انتهى).

في أمريكا نذكرُ مثلا أحد الحكماء أو ما يسموُّن بالمنظِّرين وهو زبيغنيو بريجنسكي (ت 2017) ذو الأُصول البولندية، حيث عملَ لدى ثلاثة رؤساء أمريكيين هم جون كينيدي وليندون جونسون وجيمي كارتر الذي أصبح مساعده الخاص مكلفا بمسائل الدفاع، ومدير مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض بين عامي 1977 و1981.

في الصين، لَفت نظري المُنظِّر السياسي وانغ هونينج (و-1955) وهو أحد أهم المنظرين الذين يقفون وراء ثلاثة من الرؤساء الصين آخرهم الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ، ويوصف بأنه "هنري كيسنجر الصين"، وينظر إليه على أنه "المحرك الحقيقي" للحزب الشيوعي الصيني، ويُعتقد أنه المنظِّر الرئيسي للحزب الشيوعي والمهندس الرئيسي وراء الأيديولوجيات السياسية الرسمية للزعماء البارزين الثلاثة منذ التسعينيات: "التمثيلات الثلاثة" بقلم جيانج زمين، ومفهوم التنمية العلمية بقلم هو جين‌تاو، والحلم الصيني لتشي جن بينغ، وكان له تأثير كبير على السياسة واتخاذ القرار على القادة الثلاثة البارزين، ما يعدُّ إنجازًا نادرًا في السياسة الصينية، ويُنظر إليه على أنه أحد مستشاري وصناع القرار للرئيس الصيني شي جين بينغ.

وألَّف وانغ هونينج العديد من الكتتب منها: "منطق السياسة.. مبدأ السياسة الماركسية"، و"أمريكا ضد أمريكا"، و"مقدمة عامة للسياسة الجديدة"، و"تحليل السياسة الغربية الحديثة"، و"تحليل السياسات المقارنة" و"مسابقة النقاش في مدينة ليون".

وفي روسيا يبرُز ألكسندر دوغين (و-1962) الذي يوصف بأنه فيلسوف الرئيس الروسي بوتين المفضل. ودوغين فيلسوف سوفيتي وروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع يتزعَّم زعيم الحركة الأوراسية الدولية، وهو مؤلف النظرية السياسية الرابعة التي ترى نفسها الخطوة التالية لانتهاء المدارس السياسية الثلاث: الليبرالية والاشتراكية والفاشية، كما يهدف نشاطه السياسي إلى إنشاء قوة عظمى أوراسية من خلال اندماج روسيا مع الجمهوريات السوفيتية السابقة في الاتحاد الأوراسي الجديد (EAU).

نخلصُ مما سبق إلى أهميَّةِ وجود حكيمٍ، أو فيلسوفٍ، أو منظِّر سياساتٍ، أو مستشار للرئيس أو الملك أو السلطان، لما يتمتَّع به الأوَّلُ من القدرة على قراءة المتغيرات وتوقع التنبوءات، وصياغة الأحداث، ووضع الرؤى العميقة للحاكم، فالدول تحتاج إلى سياقات فكرية عميقة مستمدَّة من تاريخ حضاراتها العريقة، حتى لا تحيد عن هويته الوطنية المترسَّخة بتبنِّي رؤى وأفكار تنحرفُ بها نحو مساقاتٍ تُخرجها من إطارها التاريخي.

كما أنَّ الأول يتحلَّى بقدرة قراءة التاريخ، واستخلاص العِبر، في صناعة القرار الإِستراتيجي للحاكم حتى لا تكون القرارات الصادرة عن الحاكم خارجة عن الإِطار السياسي أو الثقافي للمجتمع.

إنَّ مهمَّة الحاكم لا تكتملُ في واجب إصدار القرارات التي تتوسَّمُ المصالح العُليا لوطنه، وإنَّما التأكُّد أن هذه القرارات نابعةٌ من الإرث السياسي والثقافي لأُمته، ومنسجمةً مع السياق التاريخي الذي يسيرُ عليه وطنه.

وتتأكَّدُ حاجة الحاكم اليوم إلى الحكيم أو الفيلسوف أو المنظِّر نظرًا لما يشهده العالم من تغيُّرات جذرية في قضية القطبية العالمية، وما تقتضيه من تجاذبات وتضارب مصالح، فضلًا عن أن العالم يشهد متغيرات دائمة في أُطره السياسية والثقافية والسياسية.

ولقد رأينا أن دور المُنظِّرين أو الحُكماء لا يقتصرُ على الجوانب السياسية وإنما يمتدُّ نحو الجوانب الثقافية التي تشكِّل القاعدة الأيديلوجية التي تُبنى عليها القرارات السياسية والاقتصادية والعسكرية لأن الثقافة هي التي تحدِّدُ معالم الهوية الوطنية، وهذه تعنى السيادة في مفهومها العميق.

يتبقى اختيارُ الحاكم لمستشاره أو فيلسوفه البعيد النظر، العميق الرؤى، الحصيف الرأي، الوطني الروح من أجل أن يُخلصه له مستشارًا أمينًا، ومنظِّرًا كيِّسًا، إذ أن ذلك الاختيار ليس سهلًا، وإنما يكون خاضعًا لمعايير ذات أبعادٍ مختلفةٍ عبر سيَرٍ وإنجازاتٍ وأفكارٍ واضحة تتم مراقبة أصحابها ليحظى بهذه المهمة الكبيرة؛ مهمة التنظير لمسيرةِ وطنٍ، ورسم توجهاته، وتحديد مساراته.