الأُمم الأخلاق (21)

 

المشاهير والقدوات

د. صالح الفهدي

 

كلُّ سخيفٍ، وفارغٍ، وتافهٍ وجد طريقًا للشهرة بما يأتي به من تفاهات وقباحات، أشغلَ بها شرائح واسعة من المجتمع، وهذه من الدواهي والمصائب التي وقعَ فيها المجتمع، إذ أشغلته عن الأهداف والغايات السامية التي يفترضُ أن يُشغل بها وقته..!

مقاطعُ لا تحمل مضمونًا مفيدًا، ولا محتوىً نافعًا ينشغلُ بها الناس لهذه الشريحة من الفارغين التافهين أصبحت جزءًا من ثقافة المجتمع، ومن أحاديث يومياته، التي لا أشكُّ بأنها ستعمل على "تسطيح" ثقافته، وتحويل توجهاته إلى مساراتٍ ليس لها أيَّة منفعة في حياتهم..! وعلى ذلك ستتشَّكل ثقافة مجتمعية جديدة لم يعهدها المجتمع، هي ثقافة التسخيف، والتفاهة، التي ستصبحُ مألوفة في المجتمع، بل وأن من يكون مشهورًا بها يحظى باهتمام المجتمعِ وتقديره..!

إِذَا سُفَهَاءُ الْقَوْمِ صَارُوا نُجُومَهُمْ

فَقُبِّحَ مَا يَأْتِي مِنَ السُّفُهَاءِ!!

أَيُرْجَى بِهِمْ نُورٌ تَسِيرُ بِضَوْئِهِ

عُقُولٌ، وَهُمْ فِي حَيْرَةٍ وَخَوَاءِ؟!

الإشكالية الكُبرى أن القضية لا تكمنُ في مجرَّد "التسليةِ" من وراءِ هذه الظاهرة، وإنما تتعلق بزعزعة قيم المجتمع وثوابته وأخلاقياته، ففي كتابه «حضارة الفرجة» لماريو بارغاس يوسا، يشيرُ الكاتب إلى أن المفكر قد اختفى من المناقشات العامة، على الأقل، من التي تكتسب أهمية خاصة، ولم يعد للفكر في حضارة الفرجة، التي تطغي فيها الصورة على الأفكار.

ويؤكد الروائي المعروف على أن الرغبة في التسلية هو أمر مشروع، لكن أن تتحول الى قيمة عُليا، حينذاك تترتب عليها عواقب وخيمة تعملُ على انحسار الثقافة بمفهومها التقليدي، وانتشار ثقافة وسائل التواصل الاجتماعي التي ترتكز على سيطرة الصورة والصوت بدل الكلمة، وتؤدي إلى تدني الفكر والقيم والسلوكيات.

إن طغيان هذه الفئة من المشهورين بالتفاهة ليس في صالح المجتمعات التي تتمتع بثقافة أصيلة، لها قيمها الراسخة، وثوابتها المكينة المتوارثة، لأنها تضرُّ بالهُوية الوطنية، وذلك من خلال تسطيح العقل، وتسفيه الفكر، وتفاهة السلوك.

وعلى عكس ما يجب أن يكون في مثل هذه المجتمعات يتصدَّر هؤلاءِ المشهد، فيصبحوا هم القدوات بينما يُهمَّش القدوات الذين لا يقوم أي وطنٍ أصيلٍ إلا بهم في مختلف مجالات الأدب والأخلاق والعلم والاقتصاد والسياسة والفكر والاجتماع وغيرها، ولا يُسمع لهم من صوت، بل أن منتجهم يفقدُ قيمته مقابل قيمة (التفاهة) التي يكون تصدر من (نجم السوشال ميديا)، فحين نقارن حسابات التفاهين مع حسابات أصحاب المحتوى النافع نجدها مقارنةً بعيدة في نسب المتابعات لصالح التفاهين، فما الخلاصة من ذلك إلا أن التوافه قد استطاعوا أن يجذبوا انتباه المجتمع، ويشغلوه بمحتواياتهم الفارغة..!

ولا يتوقف الأمر عند مجرَّد الهرجِ والتفاهات المظهرية وما يتبعها من ابتذال وتهتك ومحتوى فارغ وإنما يصلُ إلى أقدسِ ما تقوم عليه كل أُمة وهو التعليم إذ صار هوس الحصول على الشهادات العُليا (ماجستير ودكتوراة) مقصورًا على وجاهة الظهور الاجتماعي، وليس لأجل طلب العلم النافع وتهذيب الأخلاق. كما يرى الدكتور آلان دونو مؤلف كتاب نظام التفاهة..!

إن هذه الطبقة التي تغلغلت في المجتمع سيكون لها أثرٍ سلبي واضح على مسيرة الأوطان، لأنهم جهلاء يرتدون أثواب العلم،  وفي هذا النطاق يقول الفيلسوف مالك بن نبي: "الجهل الذي يلبسه أصحابه ثوب العلم، فإن هذا النوع من العلم أخطر على المجتمع من جهل العوام لأن جهل العوام بيّنٌ ظاهرٌ يسهل علاجه، أما الأول فهو متخفّ في غرور المتعلمين".

هُنا على الدول أن تسنَّ القوانين للحدِّ من طغيان التفاهة التي أصابت كل مجالات الحياة، وضربت قيم وأخلاقيات وثوابت المجتمعات في مقتل، ولقد شرَّعت بعض الدول قوانين تحمي مجتمعاتها من مساويء وأضرار التفاهة، ورفعت في المقابل أصوات القدوات الحقيقيين الذين يُدركون مسؤوليتهم في الحفاظ على الهوية الوطنية.

إن تهميش القدوات الأصيلة، ودفع التفاهين إلى الظهور بقوة يعني أن هناكَ توجهًا لتسطيح الوعي الاجتماعي، وتخريج أجيال ذات ثقافة سطحية، لا همَّ لها إلا الإنشغال بالقيل والقال، والهرج والمرج، وتتبع أخبار التفاهين، حينئذٍ لا تتوقع أية دولة أن تمضي قُدمًا نحو مستقبلٍ واعدٍ مشرق، بل ستعود القهقرى.