من أجل عيون الفضوليين

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

صفتان كانتا السبب في تطوّر العلم؛ هما: البحث عن الحقيقة والفضول، وأقصد بالفضول العلمي والإيجابي، وهو الشغف بالاكتشاف، ومعرفة الحقائق، ودراستها، والذي اتخذه العلماء والباحثون عن الحقيقة منهجًا لهم لتطوير البشرية، فأهمّ النظريات العلمية والاختراعات، و المدارس الفنية ومذاهبها نتيجة مباشرة للفضول.

ينفرد البشر عن بقية الكائنات بنوع خاص من الفضول، وهو الفضول المعرفي الذي يقودنا إلى أن نحسم الشك باليقين، واستطعنا بفضله أن نطوّع الطبيعة، والتلاعب بها لمصالحنا بعد أن كنا نخشاها. وبشكل عام، يُعدّ الفضول غريزة في بعض الكائنات، ومنهم البشر، فهو سلوك غريزي تختلف درجته من إنسان لآخر، فالإنسان لا يعيش دون أن يطرح أسئلة، وإن كانت الأسئلة بحد ذاتها لا تعد مشكلة، فالحياة لم تتطوّر لما هي عليها الآن دون أسئلة.

يؤكد العلماء أن الفضول ليس إشباعًا لرغبة مؤقتة، مثل الجوع أو العطش، فهو دافع غريزي جيني، يتفاعل مع البيئة بطرق مختلفة، وجزء أصيل من سلوكياتنا،  فقد وجدوا أن هناك طفرات جينية معيّنة عند الإنسان الفضولي تختلف درجتها من شخص إلى آخر حسب درجة الفضول.

إنّ الكلاب والقطط من الكائنات الفضولية بشكل طريف ومضحك، ولعل ذلك كان سببا في أنها عادة ما تتعرّض للمخاطر جراء هذه الصفة، قرأت مرّة أنه في ليلة صيفية، رأت قطة، كانت على سطح أحد المنازل، القمر، وأرادت لمسه فحاولت القفز عدّة مرات فسقطت، وماتت، فكان الفضول سببا في مقتلها مع أنهم يقولون بأن للقطط سبعة أراوح.

قصة أخرى وراء المثل الإنجليزي "الفضول قتل القطة"، هي أن عالم الفيزياء شرودنج أحب أن يجري تجربة علمية، فقام بوضع القطة في صندوق، ووضع معها عبوة متفجرة تكفي لقتلها، وأغلق الصندوق، وتقول النظرية إذا لم يفتح شرودنج الصندوق، فهناك احتمال 50% بأن القطة قد ماتت إما بالمتفجرات أو الغاز السام، وطبعا النتيجة معروفة، ماتت القطة أيضا، لكن هذه المرّة ليس بسبب فضولها، لكن بسبب فضول العالم.

يُقال إن أحد أسباب انقراض الأمم والحضارات، التي تجاوزت الحدود الطبيعية للفضول المعرفي، فأفرطت في سبر أسرار الطبيعة أو تحديها، إلا أن قليلين من نجحوا في ذلك، والآخرون كانوا ضحية محاولاتهم اليائسة لاستيعاب الطبيعة وفهمها.

وكشفت شبكات التواصل الاجتماعي، شغف شريحة كبيرة من الناس في تتبّع خصوصيّات الآخرين، والتعرف على تجاربهم وأسرارهم وفضائحهم، وأصبحت هناك علاقة طردية بين عدد المتابعين، وعدد المنشورات ذات الطابع الشخصي، فكلما اتسعت مساحة الخصوصيات المنشورة على صفحات الإنترنت زاد عدد المتابعين.

ويبرّر البعض هذا الشغف بأنها الرغبة في التعلم من تجارب الآخرين، ومحاولة لفهم أكثر للمجتمع.

بالأمس كان هذا النوع من الأخبار، تنفرد به الصحف الصفراء ذات السمعة السيئة، واليوم نرى أن حتى وسائل الإعلام المعتدلة تغطي هذا النوع من الأخبار، من أجل عيون الفضوليين.

ويعد الفضول الاجتماعي مقبولًا، لمن أراد أن يعرف ما يحدث حوله من أحداث دون تفريط، ولأنها غريزة نرى أن البعض يشبعون هذه الغريزة، بالفضول السلبي والتطفل الاجتماعي على أحوال الناس، وأخبارهم وعيوبهم ومشكلاتهم، وتتبع الجيران، والأصدقاء، والأهل حتى إن البعض لا يحترم حدود العلاقات الإنسانية، فنراهم لا يتوانون في التفتيش في أغراضك الشخصية، ونبش ماضي الأفراد حتى الجد العاشر!

لا أعرف أين المتعة في التطفل ومتابعة الحياة الاجتماعية للناس؟ ماذا أكل المشهور الفلاني، وكيف كانت الممثلة الفلانية قبل وبعد عمليات التجميل.. يا ترى لماذا تطلق فلان؟

أعتقد إذا بحثنا في محركات البحث عن أكثر الكلمات المفتاحية التي يبحث عنها الناس، لا أعتقد ستخرج عن تتبع سير الآخرين.

وهذا النوع من الفضول يعد فضولًا غير مروّض، ينقصه العقل والأخلاق، وأعزو ممارسته من قبل البعض للغيرة والفراغ والفشل في إدارة حياتهم الشخصية، يقال إن علاج الملل هو الفضول، فالإنسان الفضولي كائن يغذي شعوره بالملل بتقصي الأخبار.

بالرغم من مساؤى الفضول، وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع، إلا أن علاجه يكمن، في توجيه طاقة الفضول في مهام مفيدة، أو عمل يحقّق الشغف، والمتعة، فهناك أعمال تشترط حس الفضول.

في المجتمعات المتقدمة علميًا وفكريًا يدرس الفضول العلمي والإيجابي للطفل في البيت والمدرسة حتى انتهاء مراحله التعليمية، ويعد الفضول المعرفي والإدراكي سمة تميز تلك المجتمعات، ويعد هدفا تربويًا مهما، عكس ذلك يحدث في المجتمعات المتأخرة علميًا؛ حيث إنه لا يعتد بالفضول المعرفي، ومحاولات الطفل أو الطالب فهم الحياة، فأسئلته عادة ما تقابل باستهجان، والإسكات تحت مفهوم أن الأسئلة ممنوعة، فمن وجهة نظرهم من يتبنون هذا الفكر، أن الطفل ليس عليه أن يسأل في أمور لا تعنيه، وإن كان في المدرسة فقد يقابل مدرسًا يؤمن بأن ليس على الطالب أن يسأل من خارج المنهج! يقول الباحثون لو لم يكن الأطفال فضوليين، لما تعلموا شيئًا ولا تقدموا خطوة في هذه الحياة.

إن عدم إشباع رغبة الفضول المعرفي عند الناشئة في المؤسسات التعليمية والتربوية كان السبب في تحويل التعليم إلى مؤسسات بلا روح خاوية من الإنجاز الحقيقي وخلق أجيالا تكره التعلم، ونظاما تعليميا خاليا من المتعة، لأنه حرم الطفل في مرحلة استكشاف الحياة، والعالم من حوله من الاستشكاف، وهذا ضد الفطرة، فالفضول غريزة طبيعية.

والفضول هو ما يساعد على النمو العقلي، والإدراكي للأطفال في مرحلة النمو، أما في مرحلة البلوغ، فهو الدافع إلى المعرفة، وطارد للفراغ وكل التبعات السيئة من جرّائه.

نحن بحاجة إلى تقنين الفضول، وتوجيهه بما ينفع الفرد ولا يضره، ودون خلق مشكلات اجتماعية، وحالة من انعدام الثقة بين أبناء المجتمع الواحد، فالغريزة الإنسانية جامحة بطبعها ولا حدود لها، إلا لو قمنا بترويضها، وتدريبها على ما ينفعنا إذا أردنا أن نرى نتائج فاعلة ومفيدة.