لولا حكم العسكر في الوطن العربي

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

وعَدَ آرثر جيمس بلفور، السياسي البريطاني، بمنح فلسطين لليهود كي تكون وطنًا لهم، ونصَّت اتفاقية "سايكس بيكو" بين إنجلترا وفرنسا على تقاسم تركة الدولة العثمانية المريضة في الوطن العربي، ومن ثم تفتيت الوطن العربي إلى أقطار وظيفية صغيرة هشة ومفتتة، بلا مشروع ولا تضامن ولا تكامل..

الوعد والاتفاقية هما الركن الوثيق لمُخطط الغرب للأمة العربية ومصيرها في سياق الصراع الوجودي الحضاري بيننا والغرب، وهما "الفيتو" الغربي على تحجيم دور الأمة ومحاربة نهوضها الجماعي أو الإقليمي أو حتى الفردي؛ فالهدف البعيد للغرب هو محاربة أي نموذج أو قدوة في الوطن العربي تؤسس للنهوض والانعتاق من نير التبعية للغرب والانبهار به. ومن لا يعلم أو يدرك هذا الواقع من صُناع سياسة أو نخب أو عوام، فهو كمن يحرث في البحر أو كمن يبني على الرمال.

الغرب في وضع مُريح بلا شك في حربه معنا، كونه ورث من التخلف العثماني أمة تعاني من الفجوة المعرفية لقرون خلت، أفقدتها سلسلة التواصل مع أمجاد ماضيها ومكانتها ومستقبلها، ثم أتت التجربة القُطرية الأوروبية للدولة العربية لتضفي الأنا الصغرى على كل قُطر وتعزله تدريجيًا عن محيطه الطبيعي الأكبر، ولتجعل منه كيانًا مستقلًا في سياساته وأولوياته وتعاطيه مع مفردات الصراع الحضاري الوجودي مع الغرب. ثم ختم الغرب هذه المأساة السوداء بزرع الكيان الصهيوني ليكون سيد المشهد، والقبول به هو مؤشر الرضا والسخط الغربي على كل قُطر عربي. صحيحٌ أن الغرب خرج بجحافل جيوشه من أرض الوطن، ولكنه عاد من النافذة بالاستعمار الجديد، المتمثل في تكريس التبعية والتقليد له والانبهار به، وكأنه الملاذ الأخير للبشرية، وليس من ضمن الخيارات المُتاحة لنا ولباقي البشر.

دولة الاستقلال العربي عَرفت- وما زالت- الكثير من التجارب والعثرات والاجتهادات لبناء الدولة القُطرية العصرية على شاكلة النموذج الغربي؛ كونها ثقافة دخيلة على العرب، والذين عَرفوا عبر تاريخهم الممالك والإمبراطوريات والخلافات، ولا عهد لهم بالدولة القُطرية وثقافتها والهويات الفرعية لها.

استنسخت دولة الاستقلال العربي الكثير من "القشريات" عن النموذج الغربي في هياكلها ومؤسساتها ومنها الديمقراطية مثل: التجربة الحزبية والبرلمانات والمجتمع المدني... إلخ، وهي أدوات في ظاهرها رحمة وفي باطنها عذاب، فما هي في البداية والنهاية سوى أقنية بائسة وذيول تسلل من خلالها الغرب، لبَث وترسيخ سموم الفرقة والتناحر والمحاصصة والطائفية وثقافة التغريب ومحاربة الثوابت، كونها أدوات ووسائل مستوردة ولم تنبع من حاجات الشعوب وأطوارها وحراكها وبالتالي أتت لتشكل وهنا على وهن ولتعمق المزيد من الجراحات في الدولة القُطرية الفتية المُثقلة بالموروث الاستعماري والتطلعات الوطنية نحو التحرر والسيادة والموروث القيمي والحضاري للأمة.

بُنيت دولة الاستقلال العربي على التقليد الأعمى والمحاكاة لتجارب مستوردة لكنها غير مجدية ولا مثمرة لها، وتلمست هذه الدولة لنفسها مكانًا فوق الأرض وتحت الشمس، فقامت على اجتهادات تجارب وطنية كثيرة، جانب أغلبها الصواب رغم صفاء النوايا، وكان من جملة تلك الاجتهادات كيفية بناء هياكل الدولة الوليدة والتي كانت في الغالب قوالب جاهزة تخللها الكثير من العثرات؛ كونها تحتاج إلى عنصر التوطين لتثمر. ولم تسلم من تلك الهياكل سوى المؤسسات العسكرية والأمنية والتي بُنيت على مواصفات ومقاييس عالمية، فتميزت وأثمرت حين اكتسبت عقيدتها الوطنية المكونة من العروبة والإسلام والمصير المشترك.

لهذا بقيت المؤسسة العسكرية في أغلب الأقطار العربية اليوم هي صمام أمان حقيقي للوطن وفي خدمة الأمة؛ كونها مؤسسات وطنية تأسست على مهنية عالية واحترافية كبيرة وواكبت تطور العلوم والمعارف العسكرية عبر المدارس العالمية المشهورة وأنتجت عناصر وطنية قيادية متميزة.

ولولا الحكم العسكري لما أتت ثورة 23 يوليو 1952؛ لتضع مصر والأمة العربية في صدارة المشهد السياسي العالمي، ولولا حُكم العسكر لما سقط "حلف بغداد" التآمري على الأمة في 14 يوليو 1958، ولولا العسكر لما رفضت سورية التطبيع مع الكيان الصهيوني، ولما شهدت الاستقرار السياسي والأمن الغذائي وصفر ديون مدنية منذ عام 1971. ولولا العسكر لخُطفت الجزائر في "العشرية السوداء" من قِبل الإرهاب والإرهابيين، وأصبحت أثرًا بعد عين. ولولا العسكر لزالت سورية بسياساتها المقاومة منذ بواكير "الربيع العبري 2011"، ولولا العسكر لتحولت مصر إلى وكر إخواني عفن في أرض الكنانة، كبيدق مثالي بيد الغرب لتمرير فوضاه غير الخلاقة لخدمة الكيان الصهيوني.

وبغياب العسكر تحول العراق العظيم إلى طوائف ومليشيات وشعب يطالب بالماء والكهرباء فقط، وبغياب العسكر تحولت ليبيا إلى بيت مال للإرهاب، وبتغييب العسكر في تونس منذ عهد بورقيبة فقدت تونس مناعتها وتحولت اليوم إلى وكر طيع للتنظيم الدولي للأخوان ومشتقاتهم.

لولا العسكر في الشرق والغرب كذلك لما نهضت كوريا الجنوبية بالحكم العسكري بعد نهاية الحرب الكورية، ولما تحررت فرنسا من النازية على يد الجنرال ديجول، ولما صمدت بريطانيا في الحرب الأوروبية (العالمية) الثانية بقيادة العسكري وِنستون تشرشل، ولما عادت الملكية واللحمة الوطنية لمملكة إسبانيا بقيادة الجنرال فرانثيسكو فرانكو، ولما تغوّل الاتحاد السوفييتي وتعملق بقيادة العسكري جوزيف ستالين، ولما توحدت تركيا الحديثة ونهضت بعد أن تغلبت على أطماع الجوار والغرب بقيادة الزعيم مصطفى كمال أتاتورك، ولما توحدت ألمانيا بقيادة الزعيم المحارب أوتو فون بسمارك، ولما بنى العسكري المحارب نابليون بونابرت إمبراطوريته الفرنسية.

كثيرة هي أفضال العسكر، لمن تحررت عقولهم من نعيق المتأسلمين الذين لم يعد لهم هاجس ولا هم سوى النيل من المؤسسات الحرجة ورموز الأمة، خدمةً للسيد الغربي.

قبل اللقاء.. من كان بحاجة حقيقية للإصلاح، فليحارب و"عد بلفور" و"سايكس بيكو" وثقافتهما أولًا وثانيًا وثالثًا، فهما موطن الداء والدواء، وهما الاستعمار المتجدد، ومنهما الاستقلال الحقيقي كذلك.

وبالشكر تدوم النعم..