فلسفة الأمر الواقع

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"إن كل امرء في الواقع يلون الدنيا بلون ما في نفسه ويقيس الأمور حسب المقاييس التي نشأ عليها". علي الوردي

****

ثمة تساؤل حتمي يدور في المخيلة دائما عن علاقة عبارة الأمر الواقع بالانهزامية، ففي السياسة هناك سياسة الأمر الواقع أو الواقعية، وفي الفلسفة هناك الحتمية، أمر محتم، وفي الحياة ومداراتها تجد عبارة  هذا أمر واقع لها رواج وتكاد تمل من سماعها.

هل سمعت أو قرأت مرة أن منتصرا أو ناجحا قيل له أقبل بالأمر الواقع، طبعا لا، بل لايمكن، إذن فالأمر الواقع والانهزامية سيان، لافارق بينهما في المعنى الحقيقي للواقع، وخطورة عبارة  الأمر الواقع أنها تؤكد معنويا قتل إرادة التغيير وتبديل الوضع، أي أقبل بما حدث أو حصل، طيب أين عبارة خيرها بغيرها أي حاول مرة أخرى، ستجدها ربما غير موجودة تماما، لماذا؟ إنها الانهزامية وروحها السلبية.

حتى في كتابة هذه السطور، التي أعتبرتها الآن أمرا واقعا، وقبل أن تسأل سأجيبك، لأني كنت متجهزا لإرسال هذا المقال الذي هو في الحقيقة أمر واقع للأخ مدير التحرير، لكني وبسبب أمر خاص لاعلاقة له بالكتابة اضطررت اضطرارا اضطراريا للاعتذار عن إرسال المقال في موعده المعتاد، والآن عندما فتحت المقال بجهازي الإلكتروني الصغير (لا تحدثني أو تسأل عن القلم لم أعد أكتب سوى عبر ضغط الأزرار الإلكترونية أو كما أسميها قلم 2022!)، وجدت الفقرتين أعلى هذه الفقرة وكانت مشكلة كيف استكمل المقال، كنت في الحقيقة أمام أمر واقع، وعنوان المقال تطابقت معانيه مع واقعي.

سأستطرد أكثر وقبل أن أستطرد الآن أسمع آذان الظهر وأقول مرحبا بذكر الله، الحقيقة أن عبارة الأمر الواقع هي أقرب للانهزامية من النجاح، وللتشاؤم من التفاؤل، لا تسألني إن كنت فيلسوفا أم لا.. لكنها حقيقة أني لم أسمع أو أقرأ بحياتي عن منتصر أو ناجح قيل له مبروك عليك الأمر الواقع .. إذن نحن نتحدث عن انهزامية واقعية وواقعة.

بناءً على ما سبق سأحدثك عن أمر آخر مختلف كليًا في الشكل، لكنه متوافق كليًا في المضمون مع معنى السطور السابقة، سأحدثك عن مجريات انتخابات تجري حالياً في الكويت، والانتخابات لها مرشحون وناخبون لتكمل شكلها الطبيعي، والمرشحون يعرضون بضاعتهم على الناخبين، وهناك مرشحو الأمر الواقع، وهم الذين تعود عليهم الناخب؛ كالمرشح الذي يتخصص في تخليص معاملات وأمور الناخب المهمة أو ما يسمى بـ"نائب المعاملات"، وبطبيعة الحال ونظرًا لما سيواجهه هذا النائب من ضغوط حكومية وكذلك من الناخبين سيضطر لإمساك العصا من المنتصف، أو سيكون مع الحكومة أينما ذهبت وكيفما أرادت، ولعل عذره معه. وهناك النائب الذي يطرح نفسه كنائب مواقف أو ما يسمى بـ"النائب المعارض"، وهو بذلك يتخلص بذكاء من ضغط المعاملات بعذر أنه غير مقرب من الجماعة ولا يستطيع تخليص المعاملات وأنه سيكون شوكة في بلعوم الحكومة وأنه هو النائب الحر الذي لم تلد النساء مثله وغير ذلك من الوصف الدارج، وأما الأمر الواقع فكلا الاثنين أمورهما مع الجماعة مظبوطة كالقهوة التركية المظبوطة على الوسط.

لكننا أيضا لم نرَ المرشح الذي يتحدث عن الفكر السياسي والأطروحات السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية المتعوب عليها والتي يمكن أن تغير في فكر الناخب، لذلك أصبحت الساحة بين حكومي يعرض خدماته على الناس التي أجهدت من تبعات التقصير الحكومي، وبين معارض يفرز الناس بين حر ولا نعلم ما هو مقياسه لهذا اللقب، وبين فاسد ولا نعلم أين الأدلة على فساده وكأنه يتحدث عن شبح لا نراه.

الأكيد أن العاقل خصيم نفسه، وأن الحكومة تكون أحيانا أرحم للناس من أنفسهم، وأن المرشحين أكثرهم يعرض بضاعة غير واقعية، والبعض يعرض بضاعة تصلح كمشهد في فيلم "مرجان أحمد مرجان".

أما بالتاريخ وكتابته، فكتب الأمر الواقع هي المسيطرة على كثير من المبيعات، وكثير من الكتب تفتقد لأبسط مقومات الكتابة الأكاديمية، ومع ذلك تُباع وتشترى؛ بل إن بعضها أصبح يطلب من طلبة الجامعات، والأمور ليست دائمًا بالمثالية التي ننشدها، فللأمر الواقع وجوده المشهود، والشاعر الكويتي طلال السعيد له بيت شعر رائع:

القاضي راضي // والهوى وياهم

مبروك // خلها تلعب اللعابه

فللأمر الواقع أحيانا فلسفة، ويالها من فلسفة!