التعليم والمستقبل

حاتم الطائي

◄ التعليم أولوية رئيسية في مسيرة التقدم نحو المستقبل

◄ ضرورة تطوير أساليب التعلم والقضاء على "التلقين والحفظ"

◄ لا غنى عن رقمنة التعليم والاستفادة من منتجات الثورة الصناعية الرابعة

 

في الساعات الأولى من صباح الأحد، يتوافد الطلبة على مدارسهم إيذانًا ببدء عامٍ دراسيٍ جديدٍ.. عامٌ ينطلقون من خلاله في بحار العلم والمعرفة؛ لينهلوا من العلوم ما يُنمِّي عقولهم ويُؤهلهم لبناء غدِ عُمان المُتلألِئ، وليخوضوا تجارب علمية وحياتية تساعدهم على سبر أغوار المُستقبل، سائرين على نهج آبائهم وأجدادهم في طلب العلم، مُنفذين لوصية السلطان الخالد في نفوسنا بطلب العلم "ولو تحت ظل شجرة"..

ولا شك أنَّ الاهتمام بالتعليم يمثل دائمًا أولوية رئيسية لدى الحكومات والدول، ليس فقط لارتباطه الوثيق بالمستقبل ومدى ازدهاره؛ بل لأنه الركن الأصيل في تقدم الشعوب وزيادة وعيها وقدرتها على العمل والإنتاج، فضلًا عمَّا يحمله من اعتباراتِ الهُوية والأمن القومي وغيرها من العوامل، ونحن في سلطنة عُمان نولي التعليم أهمية قصوى منذ البدايات الأولى لفجر التنمية الحديثة، والمُدقِق في تطور مسيرة التعليم في عُمان، يُدرك مدى الجهد الذي بُذل على مدار عقود خلتْ، وما زال هذا الجهد قائمًا، ما أسهم في بناء أمة عُمانية متسلحة بالعِلم والمعرفة؛ إذ لا تتعدى نسبة الأمية فيها 2.2%.

لكن في الوقت عينه، ما زلنا نواجه تحديات عديدة في مسيرة تطوير التعليم، فالأمر لا يتوقف عند بناء المدارس وزيادة أعداد المتعلمين والمُعلمين، ولا عدد الخريجين؛ إذ ثمّة معايير أخرى ينبغي وضعها في الاعتبار، على رأسها جودة التعليم ومدى مواكبته لمتغيرات العصر، وكذلك قدرته على تلبية احتياجات سوق العمل. كل هذه تحديات يتعين على واضعي السياسة التعليمية الانتباه لها بدقة، من أجل العمل على تحسين طبيعة المُنتج التعليمي، وهنا لا أتحدث عن المناهج وحسب، ولكن أيضًا الأسلوب التربوي وطريقة إيصال المعلومة للطالب، وكذلك طريقة استيعاب الطالب، وقدرته على الاستفادة مما يتلقاه من تعليم لخدمة طموحاته وأهدافه في الحياة، فلا ينبغي أن يكون التعلم من أجل الحصول على "شهادة" تمكِّن الخريج من الحصول على "وظيفة"، وهو ما يعكس غياب الفهم الصحيح لأهمية التعليم في حياة الأمم وتقدمها.

والحديث عن تطوير التعليم، قديم متجدد، ويُؤكد بما لا يدع مجالًا للشك مدى حاجتنا إلى تبني النهج الإصلاحي دائمًا، فتطوير التعليم ليس "وصفة طبية" نقدمها من أجل تحقيق التطلعات؛ بل عملية مستمرة لا تتوقف، لأنَّ العالم من حولنا لا يهدأ، والمتغيرات تتلاحق واحدة تلو الأخرى، ومن هنا نؤكد أن تطوير التعليم يجب أن يمر من خلال عدة مراحل:

أولًا: تطوير أساليب التعلم، فاستمرار نفس الأدوات والطرق التي نستخدمها في التعليم لن يُحقق ما نصبو إليه من أهداف، ولذا فإن التوظيف الأمثل للموارد في توفير أساليب تسهم في تطوير آلية التواصل بين المُعلم والطالب.

ثانيًا: الاهتمام بالتعليم التفاعلي، من خلال تعزيز العملية التشاركية بين المُعلم والطالب؛ إذ إن التواصل المباشر بين الطالب ومعلمه من شأنه أن يعزز من سرعة تلقي المعلومة، وهنا نؤكد ضرورة الابتعاد عن أسلوب التلقين في الشرح، وكذلك أسلوب الامتحانات القائم على اختبار مدى حفظ الطالب للمنهج من عدمه، وفي المقابل الاهتمام بالتعليم التفاعلي، الأمر الذي يضمن حرص الطالب على العلم، وتعزيز المهارات النقدية والنقاش والاستقصاء عن المعلومة.

ثالثًا: الاستفادة من ثورة الإنترنت، فمع معرفتنا بدور الإنترنت حاليًا في التعليم واستخدام العديد من المعلمين والطلبة لشبكة المعلومات الدولية، إلا أنه للأسف الشديد يتمحور استخدام الغالبية العظمى منهم على محرك البحث جوجل والذي لا يعني الإنترنت، في حين أن مصادر التعلم المتعددة تتجاوز محركات البحث، لتشمل التطبيقات الذكية المتخصصة في التعليم، وكذلك تطبيقات المشاهدة مثل: يوتيوب وغيره، علاوة على متابعة المحتوى العلمي الرقمي المتوافر عبر مئات المواقع المتخصصة على الإنترنت.

رابعًا: تطوير المنصات الرقمية، فقد بذلت وزارة التربية والتعليم مشكورة جهدًا كبيرًا خلال جائحة كورونا، من أجل تطوير منصة "منظرة" ومنصة التعليم المدمج، وغيرهما، لكن من الضروري جدًا أن يتواصل عمل هذه المنصات في توفير محتوى معرفي ثري متاح للطالب طوال العام، على مدار 24 ساعة، بما يساعده على استذكار الدروس، واستدعاء شروحات المعلمين في أي مادة يشاء، وليس فقط أن نعتبرها منصة للطوارئ في حالة عودة التعليم عن بعد، لا قدر الله.

خامسًا: تحفيز المُعلم، من خلال توفير البيئة الداعمة والمحفزة له؛ سواء ماديًا أو معنويًا، وقبل ذلك ضرورة اختيار المعلم باعتباره يؤدي مهمة وطنية، وليس يمارس وظيفة؛ فالتعليم ليس وظيفة؛ بل رسالة يؤديها رُسل العلم والمعرفة "كاد المُعلم أن يكون رسولًا".

سادسًا: إشراك الأسرة وأولياء الأمور في العملية التعليمية، من خلال تعزيز التواصل بين المدرسة وولي الأمر، وإتاحة الفرصة أمام ولي الأمر لمتابعة تطورات المسيرة الدراسية لأبنائه عبر تطبيق ذكي، بدلًا من الموقع الإلكتروني القائم حاليًا.

سابعًا: تزويد الطلبة بمهارات القرن الحادي والعشرين، وفي مقدمتها التفكير النقدي وحل المشكلات، والتواصل والتعاون، والإبداع والابتكار، وذلك من خلال إتاحة الفرصة أمام الطالب للقيام بهذه المهارات أثناء الدراسة، سواء داخل الفصل أو خارجه، عبر تعزيز الأنشطة غير الصفية وتحفيز الطالب عليها.

ويبقى القول.. إن تطوير مسيرة التعليم يستدعي تضافر شتى الجهود، فالأمر لا يتوقف عند وزارة التربية والتعليم وحسب؛ بل إن كل مكوّنات المجتمع منوط بها الإسهام في هذه العملية التطويرية المستمرة، بما يتماشى مع مستهدفات رؤيتنا المستقبلية "عمان 2040"، وأيضًا مع تطورات الثورة الصناعية الرابعة ومهارات المستقبل التي لم تعد حكرًا على دول بعينها.. وكُلنا أمل في غدٍ مُشرق يزدهر فيه نظامنا التعليمي بما يُلبي المتطلبات ويواكب المتغيرات.