عُمان نحو "بارادايمات" جديدة

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

التحوُّل البارادايمي أو التحول في النموذج (Paradigm Transformation)، هو تغيير جوهري وجذري في الأسلوب والآلية والفلسفة المتبعة للمواجهة والتعامل مع المتغيرات والتحديات في الجوانب المختلفة، إنها طريقة في التفكير تُفضي إلى تحوُّل نوعي يُولد نتائج غير تقليدية. وعادة ما يقوم البارادايم الجديد بحل مشاكل في الوضع القائم ويقدم مزايا جديدة وبتكلفة وجودة وخدمات أفضل؛ ولذلك فإنَّ التحول البارادايمي هو شرط وحتمية لمن ينشد الريادة في المستقبل ويستوجب تحقيق قدرات جيدة لاستشراف وقراءة المتغيرات المستقبلية، كما إن عملية تحقيق تحول البارادايمي ليست سهلة وتتطلب ايمانًا كبيرًا من فريق العمل، وقدرة على التطور بشكل مستمر، والالتزام عمليًا وليس لفظيًا.

ويسُوق لنا التاريخ العديد من الأمثلة على التغيرات البارادايمية، نذكر منها ما حدث في قطاع الساعات، ففي عام 1968 كانت الساعات السويسرية تسيطر على 65% من إجمالي السوق العالمي للساعات، ولم تتجاوز حصة اليابان 1%، إلّا أن سويسرا في عام 1980 تراجعت حصتها إلى المرتبة الثانية وخسرت حصتها لتصل فقط إلى 10% مما أدى إلى تسريح أكثر من 50 ألف عامل سويسري من أصل 60 ألف عامل في هذا القطاع، وهذه كارثة اقتصادية لبلد بحجم سويسرا، في حين أن اليابان أصبحت في المرتبة الأولى وزادت حصتها إلى 33% في سوق صناعة الساعات في عام 1980. والسبب الرئيسي هو "تحول بارادايمي" في صناعة الساعات والانتقال من الساعة الميكانيكية إلى الساعة الإلكترونية. والمثير للدهشة أن اختراع الساعة الإلكترونية هو في الأصل اختراع سويسري، لكن تم تجاهله من قبل الشركات السويسرية وتبنته شركة سيسكو اليابانية وطبقته وانتقلت به إلى السوق العالمية!

وعلى مستوى الشركات نجد أن شركات عملاقة زالت واختفت فجأة كشركة نوكيا الفنلدنية وزيروكس الأمريكية وكودكاك الأمريكية وبلاك بيري الكندية، وغيرها؛ لعدم قدرتها على التأقلم مع المتغيرات وتلبية المتطلبات والحاجات الجديدة التي يفرضها الواقع والسوق وعدم الإيمان بتلك التحولات البارادايمية والابتكار، وخاصة بسبب الأيدي المرتجفة المسؤولة عن اتخاذ القرارات الاستراتجية. نفس المبدأ يمكن تطبيقه على مستوى الدول؛ حيث إن هناك العديد من الدول التي تعاني من شلل بارادايمي؛ وهي في طريقها لخسارة مكانتها وحصتها من السوق العالمي لعدم قدرتها على استشراف المستقبل وتحقيق تحولات بارادايمية، ويمكن أن نشير هنا إلى دول القارة العجوز، الدول الأوروبية المعرضة لتحديات في المستقبل؛ لعدم قدرتها على التماشي مع البارادايمات الجديدة، التى في مجملها تعكس الثورة الصناعية الرابعة، كتلك البارادايمات المرتبطة بالهواتف الذكية والسيارات الكهربائية والاتصالات؛ حيث نجد إن السبق للشركات الأمريكية والصينية والكورية والهندية. بينما في الجانب الإيجابي نجد أن دولًا أخرى كالشقيقة دولة قطر، نجحت في استشراف المستقبل والاعتماد على بارادايمات (نماذج) جديدة مرتبطة بتكنولوجيا الغاز المسال، والتى أحدثت ثورة وتغييرًا جذريًا في صناعة الغاز ونقله، وحققت بذلك تحولًا بردايميًا نقل قطر لتكون على ما هي عليه اليوم في العالم. طبعًا دون أن ننسى اعتماد قطر على بارادايم القنوات الفضائية منذ تسعينيات القرن الماضي، عند ظهورها والاستثمار فيها، مما منحها الريادة عالميًا في مجال الإعلام حاليًا، فمن في العالم لا يعتمد على قنوات "بي إن سبورت" أو لا يتابع "الجزيرة"؟!

لهذا يبدو أننا في عُمان بحاجة ماسّة إلى تحولات بارادايمية أكثر من أي وقتٍ مضى؛ فإدخال تحسينات هنا وهناك لن تكون كافية كي تحقق عُمان رؤيتها المستقبلية 2040، وتنتقل إلى مصاف الدول المتقدمة وتستطيع خلق 60 ألف فرصة عمل سنويًا للعمانيين في القطاع الخاص وتحقيق الاستدامة المالية إذا انخفض سعر النفط.

ووهنا نقول إن المحافظة على منعة وازدهار الوطن وتعزيز القوة الشرائية وتعظيم الاستفادة مما تم بناؤه على مدى خمسة عقود من التنمية، يستوجب تحولات بارادايمية في جميع مفاصل الحياة والقطاعات الاقتصادية؛ فمواصلة الاعتماد على بارادايمات وآليات وأساليب عمل وسياسات قديمة لن يُحقق المبتغى والمُراد لهذا الوطن العظيم، وهنا نُشير إلى أهمية التوقيت في عملية التحول البارادايمي.

وعليه.. فنحن في حاجة إلى تحوُّل بارادايمي يتعلق بالتنفيذ أو بكيفية تحقيق ذلك.. صحيح أن لدينا رؤى وأفكارًا عظيمة، لكن التنفيذ يحتاج إلى تغيير كبير، خاصة على مستوى الثقافات السائدة حاليًا داخل المجتمع والشركات والحكومة ذاتها.. بصيغة أخرى نحن بحاجة لإعادة برمجة جماعية للعقول وتغيير الذهنيات.

نحن بحاجة لإعادة برمجة جماعية للعقول وتغيير الذهنيات وبناء "البارادايم" الخاص بنا

إذ إنّ معالجة مشكلة الباحثين عن عمل وتحقيق الاستدامة المالية وتنويع القاعدة الإنتاجية يحتاج إلى حلول وتحولات جوهرية تُفضي الى تشغيل قاطرات الإنتاج والتصنيع، والامر يستوجب التعامل مع الاختلالات الهيكلية بتدخلات استراتيجية تنفيذية، تعتمد في الأساس على مكامن القوة التي تملكها السلطنة والمتمثلة في الإنسان العماني وإنتاج مليون برميل يوميًا من النفط و35 مليار متر مكعب من الغاز، وتوافر مساحات شاسعة تزيد عن 309 آلاف كم مربع غنية بالموارد المعدنية والسمكية والزراعية والسياحية، وموقع جغرافي وحضاري متميز بين قارات العالم الثلاث، وشعب يافع لا يتجاوز تعداده 4.7 مليون نسمة.

وختامًا.. بقي أن نقول كيف يمكننا تسخير كل ذلك لتحقيق بارادايمات عُمانية في تهيئة بيئة الأعمال والانفتاح المدروس على العالم، والتخلص من الذهنيات التي تزعم أننا ما زلنا غير قادرين، وأن هناك أيادٍ خفية تُحرِّك هذا الكون، ولننتظر ماذا سيحدث في العالم من تغيُّرات، وماذا سيجلب لنا الحظ ونركز على المبررات والمخاطر!!!

آخر الكلام.. يقول المفكر جول آرثر باركر: "البارادايمات هي السلاح السري لخوض معركة التطور، وأنها سر التغيير ونهضة الأمم وأساس صناعة المستقبل".