على وشك الحياة

 

عائشة السريحية

حين ننظُر للأعلى، نستطيع فهم ماهية حقيقة الوجود؛ حيث نصل إلى يقين بمعرفة أن الإنسان مخلوق صغير ومتناهٍ في الصغر مقارنة بحجم السماء والكون الواسع، لكن من ينظر للأسفل دوما سيركز نظره على نملة صغيرة تمشي فيسحقها بقدمه ظنا منه أنه أقوى وأعظم مخلوق.

ومن يرى فقط تلك الكائنات الأكبر منه حجمًا سيظل صغيرًا مهما كبر حجمه!

ما الفرق بين الحجم والقيمة الحقيقية؟

حسب تعريف مبسط أن كل ما يشغل حيزًا من الفراغ وله كتلة فإنه يشكل مادة أو شيئًا، قد يكون كبيرًا جدًا، وقد يكون صغيرًا، أو غير مرئيٍ؛ كالغازات والهواء. لكن القيمة المضافة والمعنى الحقيقي لوجود الشيء؛ هو ما يتركه من أثر ومايُحدثه من تغيير، الإنسان يشغل حيزًا من الفراغ وله كتلة لكن وجوده لن يكون ذا معنى أو قيمة مضافة دون أن يكون له تأثير على هذا الكون، ويختلف التأثير من فرد لآخر، من أبسط صور التأثير لأعظمها، كتلك الشخصيات التي غيَّرت مجرى العالم في زمن مُعين وفي مكان مُعين وامتد أثرها لأجيال وأجيال.

سنتقدم خطوة للأمام من نقطة البداية لهذا المقال، وسأتحدث عن كيفية معرفة التأثير وإضفاء القيمة المضافة، لأنَّ الإنسان كي يكون حيا، عليه أن يبحث عن القيمة المضافة في حياته، فلا يكفي أن يكون مستهلكا للأكل والماء والموارد، دون أن يضفي شيئا جديدا أو تأثيرا ذا قيمة على هذه الحياة.

أن تكون محبطًا ومكتئبًا وحزينًا ووحيدًا، فأنت جسدٌ بلا روحٍ، تحتاج أن تستعيد روحك من جديد، ولا تتركها عائمة بلا وجهة، تحاصر جسدك المنهك أشباح الموت الصامتة، وتستسلم لها بسهولة كغصن جاف هبَّت عليه ريح عاتية، فاقتلعته وقذفت به بعيدًا، ليصبح شيئًا قابلًا للاحتراق لا غير!

وحين تستعيد روحك تدب الأمنيات والأحلام، وتتراقص حول جسدك الأهداف؛ لتُعلن أنك على وشك الحياة.

وأنتِ أيتها المُنهزمة أمام تحديات الحياة وعقباتها، تفقدين بريقك بسبب أنكِ لم تحظي بقدر هائل من الجمال أو المال أو الزواج أو الحياة الكريمة، فتنزوين تاركة روحك الجميلة تضيع في دهاليز اليأس والوحدة، دون أن تُدركي أنَّ الله حين خلقك لم يكن ليترككِ، ولكنه وضع لكِ اختبارًا وأودع فيكِ أشياءً جميلة ونعمًا كثيرة لم تكترثي لها، ورميت بها بعيداً وعلقت السعادة على ما حظي به غيرك، استحضري روحك التائهة وابحثي عن النعم في حياتك وستجدينها حتما، فالنعم قسمها الله بين مخلوقاته تماما كالأرزاق، وحين تعود روحك المفعمة بالطاقة ستجدين الراحة والطمأنينة تحملك على جناحي طائر السعد وحينها تعرفين أنك على وشك الحياة.

أكثر ما يجعل الإنسان ميتًا وهو يأكل ويشرب ويتنفس، هو فقدان الأمل والثقة بالخالق وبالنفس، يعيش كالزومبي جسدا يخنقه الروتين ويتنفسه عبرات حزن لا تنتهي.

حين تقرر أن تترك مراقبة غيرك، ومايملكونه ولا تملكه، ستجد روحك، وستصبح على وشك الحياة

وحين تبحث في داخلك عن الكنز الضائع الذي أودعه الله لك، وتشعر بالامتنان لما حباك الله به، ستكون أيضا على وشك الحياة.

اليأس والحزن سلاح للشياطين التي تتغذى عليها، وتقتات من روحك حتى تفقد بريقها وتنتهي، حتى وإن كنت تتنفس!

القنوط والإحباط والتشاؤم، معاول هدم الإيمان الذي تظن أنك مفعم به، وهل هناك ما هو أسوأ من تغذية شياطين تلتهم روحك رويدًا رويدًا؟

العالم يتجدد مع كل شروق ولا ينتهي بالغروب، فكيف تضع لنفسك غروبًا طويل الأمد، طالما إنك ما زلت قادرًا على  أن تكون على وشك الحياة!

فلا تتردد في اتخاذ هذه الخطوة، ولا تخشى التغيير والتجديد، الحياة مسارات، وكل مسار ينتهي بشكل مختلف، فلا تستمر في طريق واحد وأنت تعلم أن لا نهاية له، ولا تبحر دون بوصلة، ولا تسلم أمر حياتك لأحد غيرك، ولا تصبح إمعة تابعا بلا رأي أو هدف.

دع عنك حمل منظار مراقبة زيف العالم الخارجي؛ فالسعادة ليست مالًا، والحياة ليست جسدًا جميلًا، والاطمئنان ليس رفاهية في العيش، فكم من منعّم يحيا قسوة لا تعرفها، وعذاب لم تختبره، وكم من أناس رزقهم الله القوة والسلطة باتوا بهموم لم تؤرقك ولم تستشعر مرارتها، وكم من جميلات وفاتنات يغفين مغرقات وسائدهن بدموع القهر والحسرة.

السعادة لك ولهم منها نصيب، والحزن لك ولهم منه نصيب أيضًا، فلم رأسك مدار للخلف؟ ولم عيناك حائرتان ومتسمرتان على ما ظهر من حياة غيرك؟

انظر ببصيرتك لا ببصرك، واشعر بقلبك لا بأناملك، انتفض من يأسك وبؤسك، ولو لم تكن تملك شيئا، فقانون الحياة هو التغيير، لا الأمس كاليوم، ولا اليوم كالغد.

أعلن بينك وبين نفسك أنك على وشك الحياة، اجعل رحلتك القصيرة في هذه الدنيا محطة للتغلب على عقبات وتحديات الدنيا، فهي لها من اسمها نصيب، ولم تكن دنيا لتُصبح يومًا ما عُليا، وإن فعلت حقا ذلك وبدأت في البحث عن الطمأنينة في داخلك، ستصبح حرا طليقا كطائر يحلق بجناحيه، في سماء لا جدران ولا أسوار لها، وستصبح ملكًا في هذه الرحلة، وحيثما وطأت قدمك ستترك هالة مفعمة بالحياة والجمال على كل من يصادفك أو يعرفك، اصنع الأصدقاء في كل مكان، حتى وإن كان حيوانًا أو طيرًا، تسقيه أو تطعمه، أو فردًا تقدم له خدمة دون انتظار شكر أو عائد، أو صلاة في جوف الليل حمدًا وشكرًا لخالقك، أو كلمة طيبة تجبر بها خاطر مسكين أو مغلوب على أمره، وابتعد بقدر الإمكان عن المسمومين المحملين بسموم الحقد والغيرة والطمع والجشع وحب الدنيا، فهم قد وقعوا في فخها، ولن يخرجوا منه سالمين، إلا حين يبصرون الحقيقة المتجلية في دواخلهم، ويعرفون الحقيقة من الزيف.

الرضا هو أحد الكنوز الكامنة والمخفية، لا تظهر إلا حين تصل إليها في لحظة تأمل وإيمان قويين، فترسم وسط عواصف الألم والحزن بسمة يتعجب منها كل من حولك، وحينها سيعرفون جميعا أنك على وشك الحياة.