الأمم الأخلاق (17)

الرجولة في خطر!!

د. صالح الفهدي

هكذا رأت الصين أن "الرجولة في خطر" بعد أن توصَّلت إلى مؤشرات بفقدان الرجولة لدي شريحة واسعة من الشباب الصيني الذي أصبح يُقلِّد المشاهير في ميوعتهم، ويستخدم مساحيق التجميل والتزيين أكثر من النساء، فأصبحوا ناعمين (أنثويين وحساسين أكثر من اللازم) كما لاحظ مسؤولون صينيون ذلك..! فأعلنت وزارة التعليم الصينية خطتها لـ"تنمية الرجولة" وإدراجها في المناهج الدراسية الأولى.

ويبرر المستشار الصيني (سي زيفو) توجه الحكومة الصينية لتنمية الرجولة بقوله "إن ربَّات البيوت والمعلمات أفسدن الصبية الصينيين في المدارس". وأضاف: "أن الأولاد سيصبحون قريبًا "حسَّاسين وخجولين وربما شاذِّين" ما لم يتم إتخاذ إجراءات جادة وسريعة لمعالجة هذه القضية الاجتماعية الخطيرة" بل إنه أكَّد "أن هذا الأمر بالنسبة للصين يمثل "أمنًا قوميًا" ومحذرًا من أن "تأنيث" الأولاد الصينيين "يهدِّد بقاء الصين وتنميتها" المستقبلية!!

قد يرى البعض أن هذا الموضوع يعدُّ لافتًا، وغريبًا لأنه من المواضيع التي لا تتناغم مع صورة الفطرة السليمة، بل ويتساءل- والحديثُ هنا ليس عن الانحراف والشذوذ-: كيف للرجولة أن تتماهى وتتضعضع؟ كيف للرجلُ أن يحملَ جسدَ رجلٍ ولا يحملُ خِصاله، وطباعهُ، وأخلاقه؟ غير أن الرجولة في ظلِّ فساد القيم الأخلاقية قد أصابها الكثير مما أوهن صلابتها، وأضعف عنفوانها، وأفقدها سِماتها وخصالها..! والأمر ليس بمستغرب فالحياةُ العصرية بما حملتهُ من رفاهٍ، وشملتهُ من رَغد، فضلًا عما دعت إليه من طلب الراحة بوسائلَ لا تَعبَ فيها ولا نصب، قد أصاب الرجولة في مقتل؛ فالرجولة صلابة العزم، وجلادة النفس، وشدَّة الكدح في سبيل تحقيق الآمال العليَّة، والمطالب السميَّة.

الرجولةُ في خطرٍ ليس في الصين وحدها؛ بل وفي العالم أجمع، وليس من اليوم بل هو أمرٌ ملاحظٌ منذ أكثر من قرن فقد كتَب المفكر الإسلامي عبدالرحمن الكواكبي منذ ما يقارب 120 عامًا عبارة يقولُ فيها: "ما بالُ الزَّمان يَضُنُّ علينا برجالٍ ينبِّهون الناس، ويرفعون الالتباس، يفكرون بحزم، ويعملون بعزم، ولا ينفكُّون حتى ينالوا ما يقصدون"..!

الرجولةُ في خطرٍ حين ترى ميوعة الرجلِ ظاهرة، وتقليدهِ للنساء واضحة، في لباسهِ، ومشيهِ، وطرق كلامه، بل الأدهى في امتعاضه من مشقةِ العمل، ونفورهِ من الكدح وانصباب العرق، وكرههِ للصبرِ على المكارم، وتهربه من مواجهة المسؤوليات في كلِّ وقتٍ وآن، قبل الأزمات والمحن..!

الرجولة في خطر حين ترى شبابًا وهم يقلِّدون غيرهم في لباسهم المبتذل، وفي التزيُّن بالأقراط والأساور، وفي تراخي السراويل من خصورهم، وفي ليونتهم الظاهرة، ونعومتهم الناضرة، ورقَّتهم البادية، وانكسارهم الملحوظ..!

الرجولةُ في خطر فهي ليست القوة البدنية، ولا البُنية العضلية، وإنما العقل النبيه، والنفسُ الكريمة، والخصال الجليلة، يقول الشاعر الجاهلي بِشر الفزاري:

وَلا خَيرَ في حُسنِ الجُسومِ وَطولِها

إِذا لَم يَزِن حُسنَ الجُسومِ عُقولُ

وَكائِن رَأَينا مِن فُروعٍ طَويلَةٍ

تَموتُ إِذا لَم يُحَيهِنَّ أُصولُ

في الغربِ ضاعت خِصال الرجولةِ بالميوعةِ، وقد شهد على ذلك الطبيب الفرنسي أنتوني كلير في كتابه "الرجولة في خطر" الذي نوَّه في كتابه إلى أن الحياة المعاصرة في الدول المتقدمة أفقدت الرجال خصائصهم الجسدية والنفسية والأخلاقية، ويضيف: "أن الرجل البسيط في الغابة أو الصحراء هو أكثر رجولة من ملوك المال والصناعة والتجار والموظفين الجالسين وراء مكاتبهم"..!

الطبيب النفساني الفرنسي ستيفان كليرجيه، الخبير في مجال الطفولة والمراهقة كتاب بعنوان: «أبناؤنا الذكور في خطر» يقوم على فكرة أنَّ التقدّم الذي حدث في الغرب على صعيد المساواة بين الجنسين خلال العقدين الأخيرين أدّى إلى هشاشة الهوية الذكوريّة لدى الفتيان في المدرسة..!! ويؤكِّدُ الطبيب الفرنسي على أنَّ الذكور في المجتمعات الغربية يعانون اليوم أكثر من الفتيات في سبيل «بناء شخصيتهم نفسيًا وفكريًا»..!

الكاتبة الفرنسية لاتيتا رونار، هي الأُخرى، تتساءل في كتابها "هل عفا الزمن على الرجال؟" تتهكمُ فيه بالقول: "أعتقد أننا نطلب المستحيل من الرجال؛ حيث نطلب منهم أن يكونوا أقوياء وضعفاء في نفس الوقت، وقساة ومتفهمين، وشديدين من الخارج ولطفاء ورومانسيين بالمنزل".

ويبدو أن الفرنسيين لديهم حسٌّ بالنخوة أكثر من غيرهم من الأوروبيين فهذا الفيلسوف الفرنسي فرانسوا أوشي، يعلِّق متسائلًا: ظلَّ العالم مؤخرًا يركِّز بشكلٍ طبيعي على تمكين المرأة على جميع المستويات، لكن كيف يتم هذا التمكين بحيث لا تؤثر هذه (الثورة الأنثوية) على الجنس الآخر؟!

نعودُ إلى مبادرة الصين لتنمية الرجولة التي تشمل الذكور من رياض الأطفال إلى المرحلة الثانوية، لنجد أنها تتضمن عدَّة عناصر ومنها:

  • زيادة توظيف الرجال كمعلمين في الصفوف الدراسية، وكذلك كمدربين في الصالات الرياضة.
  •  تشجيع الطلاب على ممارسة الرياضات الجماعية العضلية الخشنة.
  • البعد عن الألعاب الإلكترونية.
  • دعم البحث في قضايا مثل مدى تأثير ظاهرة مشاهير الإنترنت الشواذ على قيم المراهقين.

خُلاصة الكلام.. أن أمرَ "تعزيز الرجولة" يجب أن يُؤخذ في الحسبان من قِبل الدولة والمجتمع والأُسرة بشكلٍ خاص، فقد كثر الرجال الإمَّعات، والمتغنِّجون، ومضيعو الأعراف، وفاسدو القيم، والمائعون، واللَّينون، والمنكسرون.

واجبُ التربية والتعليم أن يبنيان رجالًا أشدَّاد، أولو شهامةٍ، وكرامةٍ وعزَّةٍ ورفعةٍ، رجالًا لهم هيبتهم في أفعالهم وأقوالهم، رجالًا يعرفون الحلم، والحزم، والعزم. رجالًا يبغضون الإنهزامية والتشاؤم، ويكرهون التقاعس والتقاعد والتعاجز.

ولهذا أقول.. لقد آن للدولة أن تركِّزَ على تنمية وتعزيز قيم الرجولة المتكاملة بخصالها الحميدة، وسماتها الجليلة، فالأُمَّةُ برجالها الناضجون الراشدون الذين هم صمامُ أمانها، وبُناةُ صروحها.