الأُمم الأخلاق (16)

 

لا تحسبوها أموالكم!

 

د. صالح الفهدي

الذين أشهروا أموالهم عَلنًا ودعموا من أرادوا ابتغاءَ الشُّهرةِ، وابتغاءَ تغليب جانبٍ على جانب، أو إرضاءِ ما حاك في أنفسهم من زيغٍ وهوى، أقولُ لهم بضعةُ كلمات لعلها تصلُ إليهم، ولعلهم يرشدون.

أولًا: لا تظنوها أموالكم، فتنفقوها كيفما شئتم؛ إنَّما هي أموالُ الله سخَّرها بين أياديكم ليختبركم ماذا تصنعون بها، ويوجِّهكم أن تنفقوها في الوجهة التي أمرَ بها سبحانه:" آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ" (الحديد: 7) فإنفاقها في غيرِ ما أمرَ الله هو مخالفةٌ لأمره.

ثانيًا: إن المال كالبذور حيثما يكون يُنبتُ فتكون له ثماره، أما ما وضع في غرضٍ صالحٍ من خيرٍ وإحسانٍ وبرٍّ وفضيلةٍ فيؤتي ثماره طيبةً، فيَّاضة البركة، وأما ما وضعَ في غرضٍ طالحٍ من سوءٍ وشرٍّ ومضرةٍ ورذيلةٍ فيؤتي ثمارًا فاسدة، منزوعة البركة.

ثالثًا: إن كل عادةٍ، أو فعلٍ، أو قول يُنسب إلى إنسان يصبحُ سنَّة من سنن المجتمع، فإن كانت سنَّةَ خيرٍ أُثيبَ بها ومن سارَ عليها، وإن كانت سنة شرٍّ كان عليه وزرها ووزر من استنَّ بها، مصداقًا لحديثه صلى الله عليه وسلم "مَن سَنَّ سُنَّةً حَسنةً فعمِلَ بِها، كانَ لَهُ أجرُها وَمِثْلُ أجرِ مَن عملَ بِها، لا يَنقُصُ مِن أجورِهِم شيئًا ومن سنَّ سنَّةً سيِّئةً فعملَ بِها، كانَ عليهِ وزرُها وَوِزْرُ مَن عملَ بِها من بعده لا ينقصُ من أوزارِهِم شيئًا" (أخرجهُ مُسلم)، فما ظن المرءِ بإنفاقه المالَ في وجهةٍ غير صالحة؟! إنه حدثٌ مردود، وعليهِ فإنَّ"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (متفق عليه).

رابعًا: ما أحوج مجتمعاتنا والأخطار تتهدَّدها إلى من يقفُ ممن أنعم الله عليهم بالثراء المادي في دعم المشاريع الأخلاقية التي تعزز من أخلاقيات المجتمع، وتصونها عن الضياع والإِفساد، فوالله لم تجد مشاريعنا لتعزيز القيم الأخلاقية من يساندها أينما توجهنا إلا من قلَّةٍ نادرةٍ جدًا من الغيورين على الأخلاق، لكننا نرى بأمِّ أعيننا من يدعم بأموالٍ طائلةٍ شخوصًا هُم أبعدُ الناسِ عن الصلاح، وأقصاهم عن الرشاد، والله يقول:" فقال:﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ (النساء: 5).

خامسًا: إنكم تصنعون "قدوات" بأموالكم، فإن تقصَّدتم صناعة قدوات من السُّفهاء والتفاهين أتبعتم فئة من الناسِ وراءهم، وأحطتموهم بأعوانٍ متملِّقون، يبحثون عن هكذا "أصنام"، أمَّا إن تقصَّدتم صناعة القدوات الفاضلة في المجتمع، فقد قدَّمتم لمجتمعكم خيرًا كثيرًا سيبقى أثرًا حميدًا في المجتمع، وستجنون أثره الطيب عليكم بعد أن تنشئون جيلًا يقدِّر مقام القدوات الرفيعة.

سادسًا: لقد اخترتم بأموالكم أن ترجِّحوا كفَّةً على كفَّة، فهل سألتم أنفسكم أهي كفَّة حقِّ هذه التي ترجِّحونها، أم كفَّة باطل؟! فإن كانت كفَّة حق، فهذا جهادكم بالمال في سبيل الله، ولكم في هذا أجركم، فقد امتثلتم لقول الحق:"وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"(التوبة: 41)، وأما إن كانت كفَّةُ باطل، فهذا تحفيزٌ منكم على الباطل، ولكم على هذا وزركم.

سابعًا: إن المال إن وضعَ في موضعه الصحيح ولَّد البركة، وتضاعَف بالنماء، يقول الحق سبحانه وتعالى: "وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ" (سبأ: 39)، ويقول نبيه المصطفى عليه السلام:"ما نقصَ مالٌ من صدقة" (رواه مُسلم)، أما إن وضعَ في غير موضعه محقَ الله منه البركة، ونزعَ منه النماء الحَسن.

ثامنًا: إن المسلم الثري المال إنَّما هو صنيعةُ وطنهِ، لهذا فيجب أن يكون نصيرًا لمجتمعه؛ يساندُ الإصلاح، ويعينُ المحتاج، ويبني المشاريع الخيرية التي تنشر قيم الفضيلة والمحبة والتعاضد في المجتمع، ولا يُعدمُ المجتمع جهودًا لأثرياء دعموا وطنهم وبنوا مشاريعَ ذات نفعٍ لمجتمعاتهم.

تاسعًا: إن الإِنسان –خاصة المسلم- لا بُد وأن يتحرَّز في الريال الذي ينفقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اتقوا النار ولو بشقِّ تمرة" (أخرجه البخاري)، فهو مسؤول عن المال من أين اكتسبه وفيما أنفقه، لهذا فإن من رُشدِ المرء وكياسة عقله أن يُقربه الإنفاق درجةً من ربه، وأن يضعه في الموضع الذي يرضيه سبحانه.

عاشرًا: إن رسالة الأخلاق هي أعظم رسالة للإنسان، فما بالك بالإنسان الذي أنعم الله عليه، إنه مستطيعٌ بأمواله أن يدعم مشاريع الأخلاق في المجتمع، وأن يدفع بها الأضرار التي تلحقُ بها، وأن يحصِّن بها النفوس التي عطبت بالفساد، فما أعظمها من مهمة، وما أعزَّه من واجب.

أحد عشر: ليس شكرًا أن ينفقُ المال في وجهةٍ لا يأتي منها خير، ولا في موضع لا يُثمر والشكر هُو استدامة النعم، وشرطُ ذلك أن يعبِّرَ عنه صاحبُ المال بإنفاقه في مرضاة الله، ووجوه البرِّ والإحسان. 

إثنا عشر: قد تحسبون– بحسنِ نيَّةٍ- أن في إنفاق المال صنيعةُ خير، لكنَّكم إن تأملتم ستجدُون أنها صنيعةٌ تستحقُّ الندم، فمن تحصَّل على المال أصبحَ متعاليًا بباطله، متجنيًا يتباهى بفائضِ مالكم عليه مستقويًا بكم على خصومة، وأنتَم بذلك قد كُنتم له عِمادًا ونصيرًا، وليتكم لم تكونوا كذلك.

يقول الحق سبحانه وتعالى: "وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ" (الذاريات: 55).. إنها رسالةٌ أرجو أن يقرأها من أزهقَ ماله في غير محلِّه، أبنتُ فيها من الأسباب المنطقيةِ حتى لا يقتدى به، أو لا يُرى فعله صوابًا، وحتى يُراجع أمره إن ظن أن ما أنفقَ كان من "حُرِّ ماله"!