كيف يتحقق النقد الفلسفي الثاقب؟

عبد الله العليان

لا شك أن قضية النقد تعد من الضرورات الهامة لتلمّس السلبيات ومراجعة ما يسهم في الإبداع الفكري المنشود لأي أمة من الأمم، في حاضرها ومستقبلها، وهذه من القضايا التي تجعل التمايز دافعًا لتقدم الأفكار الفلسفية والفكرية، أما أن تبقى الأمم في ظل التقليد والاقتداء بالرؤية الفلسفية للثقافات الأخرى، دون أن تختط لنفسها رؤية إبداعية تتميز بالنظرة الخاصة وفق الفكر العربي نفسه، وتناقش أزماته التي يفترض أن تعالجها، بعيدًا عن مناقشة نفس القضايا الفكرية والفلسفية التي يطرحها الآخر المختلف في رؤيته الخاصة.

ولا شك أن من حق أي ثقافة أن تستفيد من المناهج الفكرية والنقدية التي سارت عليها الثقافات الأخرى في الرؤى العامة، لكن التقليد والمحاكاة، دون رؤية إبداعية، فهذه مسألة لا تؤسس لأي أمة نهضة فكرية أو علمية، لكن في القضايا الخاصة المتعلقة بالثقافة والميراث الفكري، فكل أمة قضاياها ومنطلقاتها الثقافية وإشكالياتها، والتي تختلف عن أمة أخرى.

ففي كتابه "في النقد الفلسفي المعاصر.. مصادره الغربية وتجلياته العربية"، طرح الأكاديمي المغربي الدكتور نور الدين آفية رؤيته النقدية، للواقع الفلسفي العربي المعاصر، وهذه كما يقول المؤلف أنه في: "ضوء التحولات التي طرأت على تاريخ الفكر الإنساني، والقطائع التي وقعت في مختلف الحقول المعرفية، سحبت من الفلسفة الموضوعات التقليدية التي كانت توفر لها شروط أخذ الكلمة، وغدت، بالتدريج، بلا موضوع. فالقول إن الفلسفة هي تصور عام للكون والمجتمع والإنسان، لم يعد تحديدًا مقنعًا طالما أن هناك اهتمامات علمية جديدة تدرس مسائل الكون والمجتمع والإنسان".

ولذلك- كما يضيف المؤلف- أن الفلسفة التي كانت في القرون الماضية لم تعد تكرر الأقوال الماضية: "انتقلت من الصورة المجازية الديكارتية، التي تعتبرها شجرة جذورها الميتافيزيقا وفروعها مختلف العلوم، إلى مواجهة وضعيتها الإشكالية التي لم يعُد لها فيها أي موضوع خصوصي تتفرد، فعلًا، بمعالجته ويعطيها شرعيتها الثقافية. ولعل بعض المشتغلين في الحقل المعرفي والفلسفي في الثقافة العربية يدركون الشقاء الذي يسكن هذا الوعي، ويقفون عند بعض ملامح الغربة التي يعبر عنها، ولا يكف عن إنتاج شروطها واستمرارها؛ بل إن المشتغلين في هذا الحقل وجدوا أنفسهم مرغمين على الانفصال عن تاريخ الفلسفة لينخرطوا في قضايا إشكالية تتداخل فيها الثقافة والسياسة بالحضارة ويتشابك فيها التاريخ والأيديولوجيا".

في هذا السياق، كما يقول د. نور الدين، يرى أنه يجب أن يبدأ الوعي العربي إلى رؤية جديدة مختلفة: "وهو يسعى إلى خلخلة الفهم المشترك الذي تعّود عليه الإنسان العربي، سواء في تعامله مع ذاته أو تراثه أو واقعه، أو في سلوكه إزاء مظاهر الحداثة وأشكال التنظيم العقلانية كافة. يتحرك هذا الوعي، بصورة ملحوظة، داخل مناخ فكري ونفسي متشابك الأطراف والاعتبارات، لكنه يبدو جذريًا في منطلقاته وغاياته، وخصوصًا أنه اشترط عليه الواقع التاريخي العربي- الإسلامي ضرورة الاحتكاك بالفكر الغربي بقدر ما فرض عليه مساءلة أساسيات الثقافة العربية- الإسلامية".

لذلك كما يرى الباحث د. نور الدين، فإن من المهم الرؤية الحصيفة والمراجعة النقدية في التقييم العام للتراث العربي، من خلال: "البدء بالكشف عن مكوّنات العقل الذي أنتج هذا التراث، الذي لم يستطع العرب الابتعاد عنه؛ لأنهم يفتقرون إلى المعرفة الضرورية به، أولًا، ثم وضع هذه المكونات موضع المساءلة والتحليل النقدي، ثانيًا؛ حتى يتم "تصفية الحساب" العقلاني مع هذا التراث الذي يجثم على الواقع العربي- الإسلامي في أشكاله التي تعاند كل محاولة عقلانية، وكل مبادرة مبدعة. وفي ضوء التحولات التي طرأت على تاريخ الفكر الإنساني، والقطائع التي وقعت في مختلف الحقول المعرفية، يرى الكاتب، أن هذه التحولات، "سحبت من الفلسفة الموضوعات التقليدية التي كانت توفر لها شروط أخذ الكلمة، وغدت، بالتدريج، بلا موضوع".

ويرى الدكتور نور الدين آفية في مناقشته لقضية نقد الواقع الفلسفي العربي كما ساد في القرن الماضي، وتوزع الرؤية الفكرية العربية :"في زمن النهضة بين اتجاهين: سلفي وليبرالي. وسيطرت عليه إشكالية مركزية تمثلت في ما اصطلح على تسميته إشكالية الأصالة والمعاصرة. وصيغَ بعض عناصر هذا الفكر داخل سياق تاريخي تميّزة الظاهرة الاستعمارية بكل تجلياتها وتعابيرها، فالغرب مثَّل- ولا يزال- تحديًا وجوديًا وحضاريًا عارمًا أثّر في جل الكتابات العربية، منذ أواسط القرن التاسع عشر؛ بل تحول إلى إطار مرجعي للمفكرين العرب، سواء أعلنوا عن ذلك صراحة، كما هو حال بالنسبة للمفكرين الليبراليين والعلمانيين العرب، أو تكتموا على ذلك وسكتوا، ولكن يسكن نصوصهم بالرغم منهم".

يُعلمنا التاريخ- كما يقول الكاتب- أن "الفلسفة- خصوصًا في تاريخ الفكري للغرب- كانت تشمل كل العلوم والأنشطة الفكرية في فترة من الفترات الزمنية. فكان الفيلسوف النسقي لا يترك مجالًا إلا ويُخضعه لنمط سؤاله العام، ويدخله ضمن تصوره عن العالم والإنسان والمجتمع. ويمكن أن نقول، بالرغم من كل أشكال التساكن والتعايش التي عرفتها العلاقة بين الأدب والفلسفة، إن هاذين النمطين من الكتابة كانا دائمًا في حالة صراع، فكل نمط يعتبر ذاته قطع أشواطا في سبيل تلمّس الحقيقة أو اكتنه كثيرًا من الحقائق"..

لا شك أن النقد الفكري يجب أن يتميز ويؤسس لذاته منهجًا مستقلا، من خلال الحفر المنهجي الخاص، ويرتبط بالواقع كما هو، وهذا ما يراه المؤلف ما يحقق النهضة الفكرية والفلسفية لواقعنا العربي المعاصر.