الأُمم الأخلاق (15)

 

الغيرة على الأخلاق

د. صالح الفهدي

إنما الأخلاقُ فطرة في النفس وسجيَّة أصيلة في طباعها، لا تصدرُ في تصنُّعٍ منها ولا تكلُّف، وإنما تخرجُ بحسبِ ما تربَّت عليه تلك النفس، وما ورثته من جينات لجيلٍ سابق، وهي أشبه بالرِّداء السَّميك الذي يُصطلح عليه الناس بـ"الحشمة" أو "العفَّة"، فطالما كان هذا الرداءُ سميكًا كان الإنسان وثم المجتمع في أمانٍ من التبذُّل والتهتك، وهي سلوكيات ما لبثت تكشطُ رداء الحشمة والعفة منذ أن خُلق الإنسان على ظهرِ الأرض لأنها أساليب إبليسية ترمي إلى إغواء الإنسان، وانحطاطه، وضياعه، وهي مهمة إبليس التي تفرَّغ لها..!!

والمجتمعُ مؤتمنٌ على أخلاقه التي أنشأهُ عليها جيلُ آبائه وأجداده، فهو يصونها كما تصونُ الصَدَفات اللآليءَ في بطنها، وهو يحفظها من أيِّ نوازعَ أو مهددات حتى لا تتداعى وتضعف.

المجتمع مسؤولٌ عن الأخلاق التي تعدُّ عمادهُ القويم، وركنه العظيم، وحصنه المتين فهو بدون الأخلاق فاقدٌ للوجهةِ، مضيِّعٌ للطريق، محرِّفٌ للمبادئ، متعدٍّ على حقِّ القيم.

المجتمعُ حارسٌ على أخلاقهِ التي تربَّى عليها، ونشأ على أُصولها، وتترعرع على مكارمها،

فإن فرَّط المجتمعُ في هذه الأمانة وتلك المسؤولية لم يعد حارسًا على فضائله، ولا قائمًا على مكارمِ أخلاقه، فيتحمَّل عندها الوِزْر جميعه، والذنب كله، وعند ذلك لا يقيم الندمُ ما تهدَّم، ولا يصلحُ العتب ما فسد، يقول أحمد شوقي:

وَإِذا أُصيبَ القَومُ في أَخلاقِهِم .. فَأَقِم عَلَيهِم مَأتَمًا وَعَويلا

لِم وَجبَ أن يقامُ عليهم مأتمًا وعويلا؟! ذلك لأن الإصابة في الأخلاقِ غير الإصابة في الجسدِ فالجسدُ يبرأ بعد حينٍ، إنَّما الأخلاق لا تبرأ فهي تضربُ القلبَ فتفسده وهو مضغة، بل أنها تُفسد الجسدَ برمَّته إذا انهارت بالإِنسان..!

إننا نرى المجتمعات التي وُصفت بـ"المتقدمة" قد تخلَّت عن أخلاقها شيئًا فشيئًا حتى تدرجت في طريق الإنحدار الأخلاقي درَجة درَجة، وها هي تخرجُ من نطاقها الفطري الغريزي الإنساني لتشرِّع قوانين تبيح الشذوذ، وتجيز الإنحراف بل وأنها تحميه بالقانون الرادع، وأعظمُ من ذلك أنها تعاقبُ كل من لا يسلك مسلكها المنحرف، وتهدِّد كل من لا يوافقها على هواها..!

أمَّا المجتمعات المسلمة فقوامها الدين الذي هو مصدر أخلاقها، وما كان مبعث الرسالة المحمدية إلًا من أجل تتمة الأخلاق "إنَّما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق" أو في رواية "إنما بعثتُ لأتمم صالح الأخلاق" فأصبحت تلك هي رسالة المسلم التي أنيط بحملها: أن يكون غيورًا على الأخلاقِ، لا يُداجي فيها ولا يُنافق، ولا يجامل، فإن فعل فلا يلوم إلا نفسه.

واليوم أصبحت مجتمعاتنا مفتوحة الفضاءات يتواردُ إليها كل غثٍّ وسمين، ولعل الغث هو الذي يجدُ شهرةً وجَلبة، فيتناقله الناس في البدءِ لأنه "شاذ" و"خارج عن المألوف" وهذا سنَّةُ كلِّ أمرٍ مستحدث للناس، يتناقلونه وهم مستهجنون، ويتراسلونه وهم مستاءون حتى يصبح ذلك الأمر الوضيع، والفعل الدنيء مألوفًا، مقبولًا عندهم، بل ويخرجُ منهم من يدافعُ عنه بحجَّة واهنةٍ، ظاهرها حسن، وباطنها خبيث، قائلين "دعوا الخلق للخالق" كأنما يقولون ارفعوا أيديكم عنهم رغم ما يأتونه علنًا من مجونٍ أو فجورٍ أو بثٍّ لسلوكيات تنتهك حُرمة المجتمع، وتتعدَّى على أخلاقياته وعاداته، وهذه حجَّةٌ باطلة، لأن الأصل هو أن يبيِّن المجتمع غيرته، ويبدي حرصه على أخلاقه، حتى لا يعمُّ أفراده جميعًا الهلاك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغيِّرُوهُ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابِهِ" (رواه أحمد، وابن ماجه، وغيرهما).

يخلطُ الناسُ بين ترك المفاسد وبين التعدي على حرية الناس بحجَّة أن ذلك ضمن ما ورد في الحديث الشريف "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، في حين أن الحديث لا يقصد ترك الناس يفعلون ما يشاءون فلا تتدخل فيهم، وإنما له مقصد آخر وهو خصوصيات الناس، أما تركهم للفساد أن يعم، وللخبث أن ينتشر فذلك هو الخسران ذاته. 

المجتمع الذي لا يغار على أخلاقه، ويخجل أن يقول فيها كلمة حق، ويتوارى حين تمتهنُ، ويتخفَّى حين تُلقى في الطين هو مجتمعٌ كتبَ مصيرًا شائنًا، وقَدرًا خاسرًا.

فلا تقتلوا الغيرة على الأخلاق في النفوس بحجِّة "دعوا الخلق للخالق" فقد قالتها ضمنًا مجتمعات حتى فسدت فيها الأخلاق ولم ينجُ منها أحد، بل غرقوا جميعًا حتى أصبح كل فعل شائن عندهم وكل سلوك منحرف من دواعي التحضر، ومن أسباب التقدم..!!

لا تقتلوا الغيرة على الأخلاق بالتهجم على من حملته الحميَّة والغيرة على أخلاقه لأننا بحاجة إلى كل صوتٍ غيورٍ على الأخلاق في زمنٍ تكاثرت فيه مفسدات الأخلاق، ومهدمات القيم، فإن صمتَ ذلك الصوت الغيور سيصمتُ ألف صوتٍ معه مخافة الهجوم عليه، وسينشأ جيل منبطحٌ أمام الرزايا، عاجزٌ عن انتقاد الخطايا، حينها لا تذموا الجيل بل ذموا أنفسكم لأنكم أخرستم فيه صوت الغيرة على الأخلاق..!!

لا تقتلوا الغيرة على الأخلاق، فالأخلاق هي الرداء الساتر للحشمة، وهي زينةُ العفة فإن لم تجد من يصونها من أصحاب النخوة والشهامة والكرامةِ في المجتمع تضاءلت، وضعفت وحينها ستكون كلمة "الأخلاق" مستقبحة، وكلمة "الحشمة" مزدراة، وكلمة "العفة" مستهجة، يتجنَّب الناس الإتيان بها على ألسنتهم خشية أن يوصفوا بالرجعيين، أو المتحجرين أو غير ذلك الأوصاف التي تسوَّق في المجتمعات من قِبل القائمين على تحطيم الأخلاق، وسحق القيم الفاضلة.

لا تقتلوا الغيرة على الأخلاق فتعلِّموا النشء أن الأخلاقَ سِلعةٌ تُباعُ وتشترى، أو أنها مما يعيقُ الحريات، أو تعلموهم "اللهم نفسي نفسي" أو "إن سلمت ناقتي ما عليَّ من رفاقتي" لا تعلموهم ذلك فهم سيقتدون بكم أينما توجهتم وسلكتم.

لا تقتلوا الغيرة على الأخلاق، فأنتم تزرعون اليوم ما يجنيه أبناؤكم غدًا، فانتبهوا لزرعكم فإن صلاحهم وفسادهم مرهونٌ بكم، فلا تكن أبصاركم كليلة، ولا أنظاركم عليلة؛ بل انظروا أعلى وأبعد.. أُنظر للغدِ كيف يكون المصير!