حوار مع البحر

 

فاطمة هبيس الكثيرية

جلست أتأمل على مرتفعات افتلقوت ذلك المخلوق العجيب الذي يُسمى البحر؛ فهو ذلك العميق الذي لا يدرك أحد مدى عمقه والأسرار التي في جوفه.

بينما أخذ الجبل المكسو باللون الأخضر يلتف منحنياً تجاه البحر وكأنه أب يحمي ابنه بالرغم من قوة البحر وقسوته فهو يزيل قرى بأكملها بضربة واحدة ولكن سبحان من سخر الطبيعة؛ لتحمي  وتحنو على بعضها.

كل شيء هناك متناغم الجبال الخضراء والزهور المتعددة الألوان والفراشات الجميلة والطيور المُغردة بألوانها الزاهية ،هناك تشعر أنك انفصلت عن العالم وحظيت بجنة على الأرض. أصغيتُ بعناية فائقة لفهم الحوار الذي شدني بين تلك الأمواج، وهي توشوش لبعضها سرا ما.

حاولت التركيز أكثر رغم الضجيج الذي يملأ المكان من زحمة السياح والمواطنين معًا، وشيئًا فشيئًا تلاشت تلك الأصوات، ولم يصل لمسامعي إلا نغمات البحر ممزوجة بزرقته التي زادته جمالا وروعة.

انقشع الضباب قليلاً فازدادت الرؤية وضوحا وازداد المنظر إبداعًا.

تعجبتُ من تلك الأشكال الهندسية التي كونتها الأمواج المُتلاطمة على الشاطئ الضيق عند مراسيها. ومع تراجعها تكونت تلك الحروف من الرغوة البيضاء المختلطة بذرات رمل ذهبية. حاولتُ جاهدة تكوين بعض الكلمات من تلك الحروف.

نجحتُ في تكوين عدة كلمات منها: وطن- أمان- عطاء- استقرار- حُرية، وسرعان ما استفقت على أصوات الأمواج..

ازداد شغفي لأفهم الحوار الذي يدور بينها كان البحر هادئا نوعا ما بعكس عادته في هذا الفصل من العام (فصل الخريف) ربما كان ذلك تأدبا منه، واحتراما لأولئك الضيوف المتهافتين على أعتابه يطلون عليه من تلك المرتفعات التي تحيط به .أو ربما ليزيل أثر سنتين عجاف من كورونا. وربما كان ذلك لحسن حظي لأحظى بهدوء البحر ورذاذ المطر والاستمتاع بتلك اللوحة الفنية التي عجز دافنشي نفسه عن رسمها، أو حتى مجرد تخيلها.

أخذني الفضول إلى فتح باب الحوار مع ذلك المخلوق العجيب المهيب  الجميل في نفس الوقت. حاولت أن أكون لطيفة في بداية الأمر، فقد آسرني جماله أثنيت على جماله وروعته ثم أردفت ممازحة.. كم تبدو وديعًا هذا اليوم!

لكن هل يمكن أن أحظى منك بإجابة صادقة على بعض التساؤلات التي تثقل فكري ؟

جاوبني بقذف بعض الأمواج نحوي إعلانًا منه بالموافقة.

السؤال الأول: هل هذا الهدوء مصطنع لتستدرج به ضحاياك الشغوفين بجمالك ليدنوا منك أكثر فتحكم قبضتك عليهم وتبلعهم في بطنك العميق وظلامك الدامس؟

جاوبني بتعجب لماذا تشكين في نواياي لهذه الدرجة؟

لم أفكر كثيرًا؛ بل جاوبت بحزم لأنك غدار ولا أمان لك؟

مثل الشخص الذي يستدرج الحسناء باسم الحب ثم يلفظها، كما لفظت أنت سيدنا يونس الذي ابتلعه الحوت ثم اختبئ في ظلماتك العميقة. فأنت تبتلع من تشاء ثم تلفظه عندما يحلو لك ذلك أليس هذا غدرا وخداعا لمحبيك؟

ضحك باستهزاء وتهكم فهمتهما جيدا من نغمات أمواجه التي قذفها نحو الصخور ثم أجاب محاولا تبرير أفعاله: أنا لا أفعل ذلك أنا لست المذنب بل هم من يرمون أنفسهم للتهلكة؛ فالإنسان طماع ويريد دائما المزيد.فكيف يقترب إلى حد الهاوية لتصله أمواجي العاتية؟ إنه كالطفل الذي يقترب من النار المشتعلة ليكتشف المزيد،ثم يصرخ بأعلى صوته بعد أن تعلم درسا قاسيا كان لابد من تعلمه. مثل الفراشات التي تحترق عندما تقترب أكثر من اللازم من المصباح المضيء كل شيء زاد عن حده انقلب ضده أليس كذلك؟

يجب أن تدركي يا عزيزتي أنني مصدر الرزق والخير والعطاء والاستمتاع أيضًا، ولكن عطائي للأذكياء فقط لأن عطائي ثمين يجب أن يقدر. فأنا أحترم من يهابني، ويدرك مدى عمقي وقسوتي أحيانا .ثم أردف بسؤال هل ما زلتِ تشكين بنواياي؟

أجبته بنوع من الاحترام: لا أخفيك سرًا أنني أستمتع بتأملك وزرقة مائك ونغمات ارتطام أمواجك على  الصخور فأرى فيك القوة والهيبة ممزوجة بجمال آخاذ وصوت رائع كما أتعلم منك الحكمة. لكن أنا لا آمن غدرك وأخافك أحيانًا وأحترس منك فأنت كل شيء وعكسه؛ فالمتأمل يرى فيك عظمة الخالق وإبداع صنعه فأنت اختصار لمعنى الحياة.. فأنت المد والجزر.. الهدوء والضجيج.. الأمان والخوف.. اللقاء والفراق.. الخير والشر.. الموت والحياة.

فسبحان الذي اختزل الحياة بمخلوق يسمى البحر؛ فالمبحر فيك يعلم أن اسمك لم يأتِ من فراغ.

تعليق عبر الفيس بوك