القراءة وطبيب الأسنان!

 

غسان الروشدي

gbn2232@gmail.com

سواءًا أكنت قارئًا مُنتظمًا، أو لم تقرأ في حياتك كتابًا قط، لابد وأنك قرأت عبارات تُشجّع على القراءة وتحض عليها من قبيل أن عباس العقّاد مثلًا "يقرأ لأنَّ حياة واحدة لا تكفيه" أو "أن القراءة استدعاء للروح" مثلما يدعّي (والت ويتمان). ولا يمكن أن يُنكر قارئًا الأثر المُلاحظ عليه متى ما انغمس في القراءة والمطالعة المُنتظمة ؛ فغالبًا ما تجد القارئ طليق اللسان، عميق الفكر والتفكير، يتميز بمَلَكة نقد، قادرًا على فرز الصواب والخطأ، ولديه رجاحةً في اتخاذ القرار والأهم من ذلك كله، أن تتوسط له القراءة في حجز موعد مع طبيب الأسنان!

من لا مُسلمّات القراءة أن ترى أثرها يمتد إلى معاملاتك اليومية، فلم أدرك يومًا ما أن يكون كتابًا في أدب السجون قد يشفع لي عند طبيب الأسنان المُكتظ جدوله بالمراجعين ويحجز لي بنفسه موعدًا قريبًا جدًا للجلسة التالية! ولم أتصور أن طبيب العظام الذي كُنت أجري اتصالات كثيرة لحجز جلسة استشارية معه يوصي عليّ للجلسة التالية بسبب كتاب في السيرة الذاتية للدكتور بول براند! ولم أعِ أنَّ التجربة السنغافورية في التدريب والتأهيل التي قرأتها في أحد كتب رئيس الوزراء السنغافوري لي كوان يو تكون سببًا في أن أحظى بكل ذلك القبول والتقديم والترحيب في ورشة عمل تجمع كبار المتخصصين في ذات المجال! والألطف من ذلك كله، أن تكون الكتب التي قرأتها تكون أول ما يُعرّف بك عند الآخرين، كأن يعرفك أحدهم للآخرين بأن يقول: هذا فُلان الذي قرأ هكذا كتب مشيرًا بيديه لحجم الكتب السنوية التي تقرأها.

في موعدٍ مع طبيب الأسنان، الذي دائمًا ما تجده مزدحمًا رغم ساعات عمله الطويلة، كُنت مستلقيًا على كرسيّ المُعالجة، يُبعثر هو أدواته الحديدية في فمي مستعجلًا للحّاق بصف المراجعين الذي يزدحم عند غرفة العلاج خاصته، سألته: هل من إجازة قريبة ستقضيها في بلدك سوريا فقال مُتبرمًا قريبًا في الشهر القادم، سألته عن مدى الاستقرار هناك، أجاب بنوعٍ من الإيجاز أن الأوضاع مستقرة وقد تكون البلاد أفضل من أي وقتٍ سبق، ناقشته عن سجون تدمر السورية، تلك السجون الوحشية التي قرأتها في رواية "القوقعة" لمصطفى خليفة، ورواية "يسمعون حسيسها" لأيمن العتوم، وصفت له عن تلك الأحداث المأساوية التي قرأتها في هاتين الروايتين، موضحًا له المواقف السياسية حول هذه السجون ورأيي الشخصي حول النهج الأمني المتبع في سوريا إبان حقبة حافظ الأسد، بدأ طبيب الأسنان مُتعجبًا من الحجم المعرفي لديّ حول شأن من شؤون سوريا الداخلية؟ طرح هو رأيه، تناقشنا كثيرًا بينما هو يعبث في فمي، كنت أعجز أحيانًا عن الكلام بسبب تلك الحشوات التي كان يحشو بها فمي، طالت فترة العلاج التي كانت لا تتجاوز الخمس دقائق لتصل إلى ربع ساعة، انتهى من العبث بأسناني، وعاد إلى مكتبه وهو يُبرر أن كلمة "النظام" ذاتها غير مستحبة بالنسبة إليه مشيرًا إلى أن الوطن لا يمكن أن يوصف بالنظام مهما كانت أوضاعه. أصرّ عليّ أن التزم بالموعد القادم الذي كان قريبًا جدًا أكثر من أي موعد سابق، وأرسل إليَّ عبر الواتساب بعد أن خرجت من غرفة العلاج مباشرةً يذكرني بموعد جلستي التالية.

سألتُ نفسي مرارًا: ماذا لو لم أقرأ تلك الكُتب، ولم أجد موضوعًا مثل ذلك أناقشه مع طبيب الأسنان ذاك؟ هل كان سيميزني ويخصنيّ بتلك المعاملة بين مئات مراجعيه!

وعندما حان اللقاء مع طبيب العظام- المشهور جدًا- بعد كثير من الاتصالات ومزيدًا من التأجيل والذي من الاستحالة أن تتجاوز عتبة باب غرفته في المستشفى الحكومي إلا إن كنت تتمتع بواسطة تتجاوز محيطك الأسري لتكون بحجم مدير المستشفى الحكومي وما أعلاه، أو تكون أكثر حظًا ببطاقة التأمين الطبي التي تشفع لك بمقابلته في المستشفى الخاص الذي يزوره الطبيب هذا مستشارًا ليومٍ واحد فقط في الأسبوع. أما إن كنت بدون "الواسطة" أو "بطاقة التأمين" فاكتفي بمعالجة عظام يديك في المركز الطبي في المنطقة التي تسكن بها!

دخلت على الطبيب المشهور أخيرًا ، الذي يلبس نظارة يضعها على طرف أرنبة أنفه، شعر رأسه لا تغطيه الكمة التي يرتديها من كثافته وكثّه، يجلس على طاولة فارغة سوى من جريدته الصباحية التي أجّل قراءتها، مكتب الطبيب المشهور خالٍ حتى من "الكمبيوتر" الذي قد يطبع عليه وصفة علاجي الطبية، فسّرت كل ذلك الخواء بشهرة هذا الطبيب وعلمه وعظمته التي تتجاوز بديهيات كل طبيب!

أمسك بيدي، تحسسها بلطف، ثم عصرها بكل ما أوتي من قوة جعلني أتلوى قبالته كأفعى مطبقةً على فأر يحاول عبثًا تنفّس الحياة!

بعد الفحص اليدوي الذي لم يتجاوز الدقيقة الواحدة، نصحني بأن أتجنّب أي تدخلٍ ليدي دون أن يكون الطبيب متخصصًا في طب عظام وأعصاب اليد، في تلك اللحظة، تذكرت الدكتور "بول براند" أحد أشهر أطباء أعصاب اليد في العالم والذي كتب سيرته بكلِ ما تحمله أوراقها من حبٍ ولطفٍ وعاطفة وعنونها بـ "هبة الألم" والتي قرأتها أنا قبل شهرٍ من موعدي المُؤجل هذا.

كان الطبيب يُعقّم يديه بعد أن لوّثها بتفحّص يديّ- هكذا يبدو- سألته مناروًا وأنا على وشك الإنصراف ما إذا كان يعرف الدكتور "بول براند"؟ بدا عليه الاستغراب، كيف لمريضٍ مثل هذا يسألني عن عرّاب وأبي الطب التخصصي الذي أمارسه؟ سألني كيف تعرف الدكتور "براند"؟ أجبته أنني قرأت سيرته المعنونة بـ"هبة الألم" والتي ترجمها للعربية مركز تكوين للدراسات والأبحاث، تحدثت عن حملته التبشيرية في الهند وجهوده في مُعالجة مرضى الجذام هناك! كان يستمع وهو يبتسم، شعرت بفخر وأنا أتحدث خارج إطار الاستشارة العلاجية مع أحد أشهر أطبّاء عظام اليد. تحدثنا عن "براند" كثيرًا وطال الحديث بيننا حتى طرقت ممرضته باب غرفته مطلّة برأسها مستنكرة طول جلسة الاستشارة هذه.

خرجتُ بعد حجز جلسة الاستشارة هذه، وبعد حديثٍ آنسٍ ومطوّل، وسألتُ نفسي مجددًا: ماذا لو لم أكن أعرف الدكتور "براند" هل سأكون في عداد المرضى الذين لا تتجاوز جلساتهم الاستشارية مع هذا الطبيب الثلاث دقائق؟

وفي موقفٍ أخير مع فريق عمل مُتخصص عملتُ معه ليومٍ واحد فقط _كنت أصغرهم_ في إعداد بعض البرامج التخصصية في التدريب، في الطاولة النقاشية كنت أستدّل تارة بتجربة محمد مهاتير في ماليزيا بتوطين الصناعات وتدريب الكفاءات بناءً على احتياجات الدول التي تجاوره، وكنت أطرح للنقاش تجربة سنغافورة في استقطاب الكفاءات وتجنيسها وابتعاثها لتهيئتها للمناصب الحكومية، وكنت أقرأ في الطاولة النقاشية التي كنت عضوًا فيها تجربة فنلندا حول آليتها للتأكد من كفاءة معلميها لضمان جودة تعليمية على مستوى البلاد، استدلالات من هنا وهناك كنت قد قرأتها من كتب مُتفرقة، كانت كفيلة بأن أحظى بكل ذلك التقدير من القائمين على ورشة العمل هذه، والتي لولا الكُتب تلك لكنتُ عددًا زائدًا أخرج من الورشة بشهادة تقدير تشهد كاذبة بمساهمتي الفاعلة في إثراء ورشة العمل.

طبيب الأسنان، وطبيب العظام، وفريق ورشة العمل، سردية غير عادية لمسيرة قارئ كان يُحاول جاهدًا أن يعيش حياتين، لأنَّ الحياة التي يعيشها حاليًا لا تكفيه ولا ترضيه.

تعليق عبر الفيس بوك