الخلاف التاريخي بين الكنيسة وعلماء الطبيعة

 

 

أ. د. حيد أحمد اللواتي

تقدير عمر الكرة الأرضية نموذجًا

 

كان الاعتقاد السائد في القرون الماضية أن عمر الأرض يبلغ ما يقارب ستة آلاف سنة تقريبًا يزيد قليلاً أو ينقص، فلقد اجتهد عدد من القساوسة والرهبان في فهم النصوص الواردة في الإنجيل وتوصلوا إلى النتيجة المذكورة، إلا أن عددا من علماء الطبيعة في القرن الثامن عشر بدأوا يُثيرون الشكوك حول صحة هذا التقدير، ترى ما الذي دفعهم إلى التشكيك بما ورد في الإنجيل على الرغم من أنَّ غالبيتهم كانوا مسيحيين يؤمنون بالمسيحية ويدينون بها؟

لنرجع إلى القرن الثامن عشر؛ حيث بدأ التساؤل حول عمر الأرض يأخذ أهمية كبيرة وذلك بعدما بدأ علم الحفريات بالبروز كعلم مُستقل حيث بدأ يأخذ تعريفا محددا، إذ عرف بأنه علم يقوم بدراسة البقايا المتحجرة من النباتات والحيوانات التي كانت على قيد الحياة فيما سبق.

والواقع أن علم الحفريات بدأ في القرن السابع عشر، وذلك عندما تمَّت ملاحظة وجود عظام وأسنان وأصداف حجرية لكائنات حية، لكن لوحظ أيضًا أن هذه الأجزاء من الكائنات الحية لا تشبه أجزاء الكائنات الحية المعروفة آنذاك، ولذا فقد ساد الاعتقاد بأن هناك عددًا كبيرًا من الكائنات الحية التي لم يتم الكشف عنها، إلّا أنَّ هذا الاعتقاد تعرّض لهزة عنيفة عند اكتشاف بقايا حيوانات ضخمة كاكتشاف جثة كاملة لحيوان يعرف بالماموث الصوفي الضخم الذي وُجِد في بعض أجزاء من سيبيريا متجمدا في ثلوجها. والماموث حيوان ضخم يشبه الفيل ولكنه يزيد عنه ضخامةً.

ومن هنا تجرأ بعض العلماء وطرحوا فكرة أخرى مفادها أن هذه الأجزاء هي لحيوانات كانت حيَّة في فترة ما وانقرضت فيما بعد، وذلك لاستحالة أن تكون موجودة وهي بهذه الضخامة ولم يتم العثور عليها بعد. ومع مرور الوقت ومع اكتشاف بقايا كائنات غريبة وضخمة لم ير مثلها، بدأت الفكرة تأخذ قبولها في الوسط العلمي، وتُبيِّن للإنسان أن هناك كائنات قديمة سكنت الأرض قبله، وأننا لسنا أول الكائنات التي عشنا فيها؛ بل هناك كائنات أخرى سكنت قبلنا وانقرضت، ولم يعد لها وجود وأطلق على صنف مُعين من هذه الكائنات مسمى "الديناصورات" وتعني "سحالي كبيرة بشكل مخيف".

إلّا أنَّ أحد التحديات التي كانت تواجه فكرة وجود كائنات منقرضة قبل الإنسان هو عمر الكرة الأرضية؛ حيث ساد اعتقاد بأن عمر الكرة الأرضية لا يتجاوز الستة آلاف سنة، وبهذه المدة الزمنية القصيرة فإنَّ تفسير وجود هذا الكم الهائل من الحيوانات المنقرضة أمر فيه صعوبة بالغة.

وهكذا بدا الخلاف جليًا بين الإنجيل (الكتاب المقدس عند النصارى) وبين كُتب الطبيعة، على الرغم من أن كلاهما من مصدر واحد فالإنجيل كتاب مقدس منسوب إلى الله وكتاب الطبيعة هو مظهر قدرة الله وعظمته!

وفي تلك الفترة، بينما كان علماء الأحياء والحفريات منشغلين في دراسة تنوع الأحياء كان علماء الأرض "الجيولوجيا" منشغلين أيضًا بدراسة تنوع التضاريس على الكرة الأرضية، وذلك في محاولة للكشف عن أسباب وجود الجبال والسهول وكيف تتغير هذه التضاريس مع الزمن، وكانت إشكالية عمر الكرة الأرضية تقف حائلًا أمامهم؛ لأنهم لاحظوا أنَّ التغييرات في الطبيعة تحدث ببطء شديد ولذا فتكون الجبال الضخمة والوديان العميقة والأنهار العظيمة تحتاج إلى فترات زمنية طويلة أطول بكثير من العمر المقدر للكرة الأرضية والذي لا يتجاوز ستة آلاف سنة.

وفي عام 1749 ألَّفَ العالم الفرنسي دي بوفون (1707- 1788) كتابه الضخم المؤلف من 36 مجلدًا، تناول فيه التاريخ الطبيعي بشكل مُفصل، وخلافًا لما كان هو السائد صرح بأنَّ عمر الأرض يصل إلى 35 ألف سنة. وكان ذلك أول تصريح من عالم في الطبيعة يجاهر صراحة بمخالفته للاعتقاد السائد عن عمر الأرض، واستمر الجدل حول عمر الأرض، وقامت محاولات متبعة المنهج التجريبي ومحاولات أخرى قائمة على استنطاق النصوص المقدسة للوصول إلى عمر تقديري لكرتنا الأرضية.

لكن علوم الطبيعة حسمت أمرها بشكل كبير، ويرجع الفضل في ذلك إلى العالم ليبي والذي طوّر طرقًا علمية قائمة على النظائر المشعة لليورانيوم والثوريوم والرصاص لمعرفة دقيقة لتاريخ الآثار والحفريات المُختلفة، وبناءً على هذا التحليل والذي تصل دقته العلمية إلى أكثر من 99% ولا تتجاوز نسبة الخطأ فيه 1%، فقد تم تقدير عمر الأرض بأنَّه لا يقل عن 4.4 مليار سنة؛ وذلك من خلال تحليل عينات لصخور في غرب أستراليا، وتعد هذه الصخور أقدم صخور تم رصدها إلى يومنا الحالي.

لكن.. لماذا إذن قدّر القساوسة والرهبان عمر الأرض بحوالي 6 آلاف سنة؟ ربما يكون السبب- والله أعلم- أن تفسير نصوص الإنجيل كان مبنيًا على فرضية مفادها أن عمر المجتمعات البشرية يعادل عمر الكرة الأرضية، ومن خلال تتبع القساوسة والرهبان للنصوص التي تشير إلى تاريخ الأنبياء وأممهم، توصّلوا إلى النتيجة المذكورة.

وعندما ثبت أن هناك فارقًا كبيرًا بين عمر الكرة الأرضية وبين تاريخ المجتمعات البشرية، حسم كُتّاب الطبيعة النزاع وتم إعادة قراءة النص الوارد في الكتاب المقدس بناءً على المعطيات الجديدة ليتصالح مع كتاب الطبيعة، فلا يمكن أن يختلفا وكلاهما من مصدر واحد.

إنَّ الدرس المهم الذي نخرج به من هذه الحادثة وأمثالها، أن قذف الآخرين بأنَّهم يخالفون النصوص المُقدسة ليس حلًا على الدوام، ففي بعض الأحيان تتداخل الأمور وعلى الأطراف المتنازعة الجلوس معًا للخروج بنتيجة أقرب للحقيقة باستخدام ما نملك من أدوات معرفية.