تسهيل الإجراءات (4)

دور رئيس الوحدة في الثقافة التنظيمية

د. صالح الفهدي

كُنتُ أتحدَّثُ مع قائدٍ لإحدى الوحدات حينما طالعَ شاشة كاميرات المراقبةِ على يمينه، فرفع سمَّاعة الهاتف ليتحدَّث مع أحد المسؤولين لديه سائلًا: اُنظر ماذا يفعل الموظف الفلاني في الاستقبال؟ إنه يلعب بهاتفه، ويتجاهلُ مراجعًا أمامه، عليكَ أن توجِّه له إنذارًا لسلوكهِ غير الصحيح.

وحين رأيته وهو يطوفُ المكاتب، ويقفُ ليسأل المراجعين كيف يمكنه مساعدتهم، قُلتُ له: لقد أعجبتني هذه المواقف المواقف منك، فأقوى وأسرع مصدر لنشر ثقافة تنظيمية داخل جهة العامل تأتي من الرئيس أو القائد بمثل هذه السلوكيات والمتابعات حتى يتعوَّد الجميع على ثقافة تنظيمية واضحة ومناسبة.

"الثقافة التنظيمية" تمنح جميع الأفراد العاملين في جهةِ عملٍ واحدة هويَّة تنظيمية، يتشاركون فيها نفس المعايير والقيم، وتوحِّد توجهاتهم نحو تحقيق الأهداف المشتركة.

ومن المؤسف أن كثيرًا من جهات العمل لا تولي اهتمامًا للثقافة التنظيمية التي تُعدُّ أساسًا لمنظومة العمل، ومنطلقًا لا منازع فيه لتحقيق الغايات التي أنشئت الوحدات من أجل القيام بها وإنجازها، لهذا لا غرابة أن ترى موظفين يُظهرون سلوكيات لا تتطابق مع قيمة المؤسسة التي ينتمون إليها، مما يجعلهم يُسهمون في تشويه السُّمعة الخاصة بتلك المؤسسة الرفيعة بما يبدونه من طباعٍ وأخلاقيات وقيم لا تتوافق مع تلك المفترض أن تكون لتلك المؤسسة.

إحدى المؤسسات عيَّنت موظَّفًا لا يتناسبُ مع قيمها وطبيعة سمعتها، وبعد انتهاء الفترة التجريبية المحدَّدة بثلاثة أشهر، لم يُعتمد تعيينه نظرًا لعدم إثباته التوافق مع المؤسسة والكفاءة في الوظيفة، ولكن تم تمديد الفترة التجريبية لثلاثة أشهر أُخرى، لرغبة في نفس أحد المسؤولين. وهُنا أوقع هذا المسؤول المؤسسة في إشكالية، لكن يبدو أنه كان يريدُ (فرض) تعيين هذا الموظف بأيَّة طريقة، وهذا ما جرى؛ إذ تم تثبيته رغم كل الملاحظات عليه بعدم الكفاءات، فتوالت الأخطاء الفادحة منه، وتوالى نقله من قسمٍ لآخر، وأصبح كالشوكةِ في حلقِ المؤسسة لا تستطيع بلعها ولا إخراجها!

وحينما كنتُ عضوًا في لجنة من لجان المقابلات للوظائف لم يكن من الصَّعب عليَّ أن أُحدِّد ما إذا كان هذا "المرشَّح" للوظيفة يصلحُ أن يكون فردًا من أفراد هذه المؤسسة أم لا؛ وذلك لاستيعابي قيم ومثل وأخلاقيات المؤسسة وتقييمي لشخصية المرشح إزاءها.

ولا جدال على أن القائد أو الرئيس لأية مؤسسة هو المصدر الأساس لقيم الثقافة التنظيمية لتلك المؤسسة، فكلُّ فردٍ في المؤسسة يُفترض أن يحمل قيم الثقافة التنظيمية التي يريدها القائد أو الرئيس لمؤسسته بحسب ما تكون عليه رؤيته وأخلاقياته، فإذا كان رئيس المؤسسة ميَّالًا إلى تسهيل الإجراءات، وتيسير قضاء المصالح، يفترضُ أن يكون النمط السلوكي لجميع العاملين على ذات النهج الذي يكون عليه الرئيس، أما إذا كان الرئيس مُعقِّدًا لمصالح الناس، مترددًا في اتخاذ القرار، لا يتحلَّى بالشجاعة والجرأة في حسم الأمور، فلا يمكن توقع أن يكون العاملون على عكسه لأنهم يخافون من اتباع السلوك المخالف لرئيسهم وإن كانوا متذمرين منه، وناقمين عليه..!

وإذا كان الرئيس مركزيًا يستحوذ على القرار في المؤسسة، فلا يمكن افتراض أن العاملين في مؤسستهم يمتلكون الصلاحيات التي تمكنهم من اتخاذ القرار وإن كانوا على درايةٍ به، فهم يتنصلون من المسؤولية حتى لا تقع العواقب عليهم!!

وقد وجدنا كثيرًا من الموظفين لا يوافقون الرئيس على سياسته في إدارة المؤسسة ولكنها يفعلون ما يؤمرون!! وحين ينتقدُ بعض الناس سلوكيات منسَّق لمكتب مسؤول أو مدير لمكتبه أقول لهم: هل تظنون أن رئيسه لا يعلم عن أخلاقياته وسلوكياته؟! لقد أراده بهذه السمات حتى يتوافق مع طباعه وقيمه وإن كان يبدو في الظاهر خلاف ذلك!!

المصالح الخدمية بحاجة ماسة إلى ثقافة تنظيمية تعي أنها وضعت لخدمة الناس، وقضاء مصالحهم بالسرعة، والجودة، والطرق المُثلى ولم توضع من أجل تعقيد مصالح الناس ووضع العراقيل أمامهم حتى لا يُسهموا في حِراك مجتمعهم، وتحسين أحوالهم المعيشية.

وبهذا فإن المصالح الحكومية الخدمية تحتاج إلى رئيس منفتح التفكير، بعيد الرؤية، يرى الفرص السوانح لنماء الوطن وعمرانه، وينظر إلى المصلحة الشاملة للأوطان، وليس ذلك المتمترس خلف بنود القانون الجافة لا يعرف من روح القانون شيئًا.

المصالح الحكومية بحاجة إلى قائدٍ يحملُ قيمًا إيجابية للتيسير على الناس، ودفع مصالحهم للإنجاز بأقصى سرعة، ورفع العراقيل عنهم، وإزالة الحواجز من طريقهم، ولا يعني ذلك تجاوزه للقانون وإنما تسريع الإجراءات، وتبسيط المصالح فالوقت وطرق الإنجاز أدوات يملك القائد التصرف بها كما تكون عليه قيمه القيادية. 

خلاصة القول.. إن الجهات الخدمية تحتاج أن يرأسها من يمتلك القدرة على إنشاء ثقافة تنظيمية قوامها التيسير والتسهيل والإيجابية والتحفيز من أجل أن تصبح بيئة مشجعة للناس كي يتعاملوا معها، ويجدوا فيها حافزًا لتحسين وسائل حياتهم.

وأقول دائمًا: كل مؤسسة تدلُّ على قيم رئيسها؛ سواء كانت إيجابية أو سلبية، فالقائد هو المسؤول عن الثقافة التنظيمية فيها، وهو المسؤول عن سمعتها، وطرق التعامل فيها.