حين فهم الأولون معنى "الوطن" (2)

 

 

د. رفعت سيد أحمد

الملاحظ على الطهطاوي أنَّ ترجمته للقوانين الأوروبية -والفرنسية على وجه- الخصوص لكي يرسخ مفهوم الوطنية كما فهمه في الغرب، لم يجعله يغفل عمَّا في التراث الإسلامي من فقه في المعاملات جدير بأن "نحييه ونطوع قواعده لظروف الزمان والمكان وما حملت من تجدد في المصالح وتغيرات في العادات والأعراف" (رفاعة رافع الطهطاوي، تخليص الإبريز، المقالة الثالثة، الفصل الثالث عشر، مصدر ، ص: 114).

ويرى بعض المثقفين بشأن الثورة العرابية أن "العرابيين لم يكونوا يعرفون ماذا يريدون" أو على الأصح كانت ورطتهم أنهم كانوا يريدون أشياء متناقضة، كانوا من جهة يريدون (مصر للمصريين) أي يُريدون القومية، ولكنهم من جهة أخرى كانوا يقبلون بالتبعية للثيوقراطية العثمانية، بعبارة أخرى كانوا في علاقاتهم بالخليفة السلطان العثماني يقبلون الخليفة ولكن يرفضون السلطان، وبالمثل فبينما نجد أنهم كانوا يطلبون الحياة الديمقراطية الدستورية فقد منعهم تكوينهم النفسي المحافظ من إدراك أنَّ الديمقراطية والدستورية هما في الأساس منتوجات أوروبية مؤسسة على نظرية الحق الطبيعي وليس لها جذور في التراث الثيوقراطي التقليدي.

ثم يصل هذا الرأي إلى نتيجة مؤداها أنه "حتى لو انتصر العرابيون فإن حيرتهم كانت كفيلة بتبديد طاقتهم دون جدوى بسبب عدم وضوح إدراكهم للاتجاه الصحيح، وأن مشكلتهم الحقيقية لم تكن موقفهم من الجيوش الغربية، ولكن موقفهم من القيم الغربية" (د.لويس عوض، قصة العلمانية في مصر، المصور، العدد 3076 بتاريخ 23/6/1983م). بيد أنَّ هذا الرأي يُساق بشأنه العديد من التحفظات؛ أهمها إغفاله للسياق الاجتماعي والسياسي الذي قامت فيه الثورة العرابية، والذي تمثل بوجود مجتمع يواجه بتحدٍّ غربي على المستوى الحضاري والعسكري معاً، وبعملية تغريب من قِبَل الخديوي لمجمل المؤسسات والنظم والقيم السائدة، إضافة إلى هذا فإن الرأي السابق يتبنى المفهوم الأوروبي للعلمانية وللثيوقراطية ويطبقه على المجتمع المصري عام 1882م، دونما إمعان للفهم في اختلاف البيئتين حضارياً وسياسياً، والاقتصار على ظاهر الأمور؛ فكان منطقياً أنْ يصل إلى نتائجه السابقة.

ووضعنا لقضية ثيوقراطية الثورة العرابية في إطارها الصحيح وفي مواجهة الرأي السابق أيضاً، يرى آخرون أن أحمد عرابي "حاول ما لم ننتبه إليه حتى الآن وهو أن يقوم بثورة وطنية في مصر وفي الوقت نفسه المحافظة على الوحدة الإسلامية؛ سواء سميت الخلافة الإسلامية أو الجامعة الإسلامية أو الجامعة الشرقية".

إن أحمد عرابي (1841-1911) بهذا المعنى حاول أن يؤكد ثنائية الدور الذي قامت من أجله ثورته، فهي ثورة وطنية تسعى لتحقيق أهداف ومطالب سياسية داخلية بالأساس، وهي ثورة تهدف لتأكيد البعد الإسلامي الحضاري (يتضح ذلك مليا في قراءة وتأمل: 15 مذكرات عرابي، كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية في عامي 1298و1299 الهجريين وفي 1881 و1882 الميلاديين، الجزء الأول (القاهرة-دار الهلال)،  وهو ما استعصى على فهم بعض ممن يخضعون تاريخهم لمناهج البحث الغربي القاصرة، ولأنَّ موقف الثورة العرابية أتى في إطار عمليات طرح النموذج الغربي في مواجهة النموذج الإسلامي، فلقد أحدث ردود أفعال مختلفة تراوحت بين قبوله والسير في ركابه، أو مهادنته وانتظار نتائجه أو رفضه كلية.

ولعل في موقف رجال الأزهر من الثورة العرابية ما يفيد في تقويم مساهمتها في إشكالية الوطنية تلك، وهو الموقف الذي تراوح بين فريق أول يمثله بعض مشايخ الأزهر الذين ساروا في طريق الثورة.

وأفتى أحدهم "بأنه لا يصح أن يكون توفيق حاكماً للمسلمين بعد أن باع مصر للأجانب باتباع ما يشير به عليه القنصلان، لذلك وجب عزله.. وأن مصر تؤيد عرابي". كما أفتى الشيخ حسن العدوي، بشرعية عصيان الخديوي؛ فقال: "إنه بأمر الله ورسوله لن تطاع أوامر الخديوي وإن الوقت قد حان لنشوب حرب مقدسة" (وفريق ثانٍ رفض الثورة كلية وتهادن مع الخديوي والإنجليز، وكان على رأسه الشيخ محمد العباس، والشيخ حمزة فتح الله، وازدادت قوة هذا الفريق بعد استصدار الإنجليز من السلطان العثماني فتوى تقول بعصيان أحمد عرابي له، والتي مثلت قمة التوتر بين عرابي والسلطان، والتي قضت بالضرورة على مقولة ولائه المطلق للسلطان العثماني أو تناقضه تجاه سلطانه ومتطلبات ثورته الوطنية. أما الفريق الثالث، فقد توسط الفريقين وتريث قليلاً في موقفه من الثورة العرابية وإن انحاز إليها ومثَّل هذا الفريق الإمام محمد عبده، وعلي مبارك، وهكذا أتت مساهمة الثورة العرابية في إشكالية الوطنية لتنتج آثاراً تجاوزت الزمن الذي وقعت فيه الثورة، وأضحت مثالا مهما وإيجابيا في فهم قيمة (الوطن ) لدى كل الثورات التي تلت ثورة عرابي الوطنية المجيدة.

والحديث متواصل...،