حين فهم الأولون معنى "الوطن" (1)

 

د. رفعت سيد أحمد

دأبَ الفكر الإسلامي المعاصر -خاصة بعد النصف الثاني من هذا القرن- وحتى يومنا هذا، على إعادة إنتاج قضاياه القديمة، وإعادة طرحها بنفس الشروط وذات المواصفات التي كانت ملازمة لها مع أوائل القرن التاسع عشر، وهي عملية تعكس في تقديرنا حالة الخلل البنائي الذي أصاب العقل المسلم، والعربي فجعله يقف عن الإبداع، ويكتفي باجترار القديم، ويُعيد إنتاج ما وقف الكثيرون عن إنتاجه بل وعن شرائه، وتسويقه، وهي حالة من الخلل أسهمت فيها عوامل عدة ذاتية، وموضوعية، ليس هذا مجال الخوض فيها.

إن ما يهمنا في هذا المقام هو الإشارة إلى أنَّ إشكالية "الوطن والوطنية في الفكر الإسلامي المعاصر" كانت واحدة من أبرز هذه القضايا التي اعتدنا إعادة إنتاجها، وتسويقها بين حين وآخر بذات المواصفات والشروط التي أُنتجت في إطارها منذ ما يقارب القرنين، وعادة بصنعة أقل جودة.

ولأنَّ هذه الإشكالية بهذا الوضع؛ فإن مهمة "إعادة إنتاجها" -في تقديرنا- مصدر الصعوبة الحقيقي، ومكمن التحدي في الوقت ذاته، وهو تحد يتطلب منا أن نقدم جديداً في قضية استطاع السلف الصالح من المعاصرين، أن يحسموها منذ ما يقرب من مئتي عام مضت، مع غيرها من القضايا ولأن الجديد في قضايا الفكر الإنساني بعامة، "وفي قضايا الفكر الإسلامي بخاصة"، غير منبت الصلة بالقديم، بل هو امتداد له في عملية تكامل حضارية وسياسية معقدة، من هنا وجب تقديم إنجازات الموروث الفكري تجاه هذه القضية والبناء عليه.

وهو ما سنحاول القيام به في هذا المقال، عبر عدة حلقات مستقلة، تصلح كل واحدة فيها لتكون مقالا مستقلا بذاته؛ انطلاقاً من فرضية أساسية مفادها أن "الوطنية" بمعنى الانتماء لوطن معين والذود عنه، لا تتناقض مع (الإسلامية) إذا ما بُنيت على أساس عقائدي صحيح يأخذ من الانتماء إلى الإسلام بناءه الكلي ودائرته الأشمل التي تجيز -بل تفرض في أغلب الأحيان- الانتماء إلى الوطن "بمعنى الأرض"، أو إلى القوم "القومية"، نقول: إن هذا يجوز بل يرقى إلى مستوى الفرض في الإسلام إذا ما بُنِىَ على أساس عقائدي ورسالي صحيح، وليس انتقائيا كما كان -ولا يزال- سائداً في بعض المشاريع الوطنية، والقومية على المستوى العربي.

هذا هو افتراضنا الأساسي.. وهو افتراض سوف نرى من خلاله جميع الاجتهادات الفكرية التي طرحها الفكر الإسلامي المعاصر بشأن مسألة "الوطنية"، وسوف نقيس عليه تلك الاجتهادات.

وفي سبيلنا لإعمال هذا المنهج وصولاً إلى إنتاج جديد بشأن هذه القضية، أو على أضعف الإيمان تجويد الصنعة، في عملية إعادة انتاجها، فإننا سوف نتناولها من خلال مستويين -أو محورين- من التحليل؛ الأول نقوم فيه بإعادة تركيب القضية، من خلال إعادة قراءة أبرز الاجتهادات الفكرية للرواد الأوائل من الإسلاميين خلال الفترة الممتدة من أوائل القرن التاسع عشر، وحتى نهايات القرن الماضي، وهو ما يعني التفتيش والبحث عن تعبيرات الإشكالية في أدبيات الطهطاوي، وأحمد عرابي، والأفغاني، ومحمد عبده، والبنا، وسيد قطب.. وغيرهم، ثم إعادة صياغتها من جديد، وصولاً إلى معرفة موقعها، وأبعادها، ودلالاتها، ومعانيها لديهم.

أما المستوى الثاني فيتناول بتحليل -حاولنا أن يكون جديداً- إشكالية الوطنية كما فهمها التيار الإسلامي المتشدد في مصر خلال حقبتي السبعينيات والثمانينيات من خلال وثائقهم الخاصة، والتي لم ينشر أغلبها حتى اليوم والتي تمثل في تقديري الأساس الفكري الأول لجماعات داعش والقاعدة وغيرها من تنظيمات العنف الديني التي لا موضع ولا قيمة لـ"للوطن" لديهم.

تلك هي خطة بحثنا بإيجاز.. فماذا عنها بتفصيل؟

حتى بداية القرن التاسع عشر وتحديداً قبل مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر في عام 1798م كانت مصر ومعها بلدان العالم العربي، دولاً إسلامية من حيث النظم والتقاليد والشرائع، ولكن ما لبثت الأوضاع أن تبدلت على المستوى الفكري والثقافي العام وعلى المستوى السياسي بحلول الحملة الفرنسية وما تبعها من استعمار غربي وما قدماه من نماذج للفكر وللسلوك وللنظم الغربية، نتج عنه إثارة المشكلة -موضع البحث- بين أنصار الموروث وأنصار الوافد، وعبرت عن نفسها تحت مسميات عدة اختلفت باختلاف العصر، والهدف، وبتعدُّد الأشخاص والموضوع الذي أثيرت من خلاله.

وإذا جاز القول بأن تاريخنا الحديث، هو في حقيقته حلقات من ردود أفعال متتالية على التحدي الغربي، وذلك على جميع المستويات: سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية، فإنه لا يمكننا أن نفهم طبيعة التطور الذي طرأ على مجتمعنا على هذه المستويات إلا إذا فهمنا من جهة حقيقة التحدي الذي يجسده الغرب، ومن جهة أخرى ردود أفعالنا إزاء هذا التحدي.

وفي ضوء هذا التصور، فإنه ينبغي دراسة إشكالية الوطنية من خلال ما طرحه مفكرو هذه الفترة، ويأتي في مقدمتهم رفاعة الطهطاوي، والذين بتحليل أفكارهم يمكن تحديد شكل ردود الفعل تجاه الحضارة الغربية، ونوعية النموذج الإسلامي الذي قدموه في مواجهة هذه الحضارة، خاصة تجاه هذه الإشكالية ولقد كان الطهطاوي، ومن بعده مساهمة الثورة العرابية، هي أبرز الاستجابات عن السؤال المركزي.

مساهمة رفاعة الطهطاوي

لقد تناول العالم الأزهري الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801–1873م) إشكالية الوطنية في المجتمع المصري بشكل مختلف نسبياً عمن تلاه، حيث يعود ذلك ضمن أسباب عديدة منها عدم بروز التناقض بين النموذج الإسلامي، والنموذج الوطني والمستمد فيما بعد من "فكرة الوطنية" كما استقرت في الفقه الغربي، حين ربط الانتماء بأرض الوطن، وليس بالعقيدة كما كان سائداً في الفقه الإسلامي وقتذاك، نقول هذا التناقض لم يكن بارزاً لهذا السبب وأيضاً بسبب وجود دولة إسلامية (وطنية) قوية يخشاها الغرب وقتئذٍ، دولة محمد علي. وعليه لم تكن القضية مطروحة بنفس الإلحاح الذي عاصرته إبان النصف الثاني من القرن التاسع عشر وهو ما يتضح في فكر الطهطاوي الذي تعرض لها من خلال تأكيده أن "الوطنية" لا تتنافى مع الإطار الإسلامي ومع الفهم الصحيح للإسلام، خاصة إذا كان هذا الفهم خالياً من التعصب، ومن إجبار الملوك لرعاياهم على تبديل عقائدهم الدينية -تحت دعوى التعصب للدين- وذلك لأنه ووفقاً لقوله: "إن الملوك إذا تعصبوا لدينهم وتداخلوا في قضايا الأديان وأرادوا قلب عقائد رعاياهم المخالفين لهم، فإنهم يحملون رعاياهم على النفاق، ويستعبدون من يكرهونه على تبديل عقيدته، وينزعون الحرية عنه، فلا يوافق الباطن الظاهر، فمحض تعصب الإنسان لدينه لإضرار غيره، لا يُعد الا مجرد حمية، وأما التشبث بحماية الدين لتكون كلمة الله هي العليا فهو المحبوب والمرغوب" (رفاعة رافع الطهطاوي، كتاب "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية"، الفصل الثالث في د. محمد عمارة الأعمال الكاملة لرفاعة رافع الطهطاوي، ج11 بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1972، ص: 556).

والطهطاوي في هذا يُدلل على تأثره بالنموذج الغربي وإدراكه للقضية على أنَّها تأتي في سياق صراع بين فكرية العصور الوسطى الإسلامية والتي ترفض فكرة الوطن والوطنية كما أشيع وقتئذٍ في أوساط المتغربين وبين فكرية النموذج الغربي، ولعل هذا ما دفع بعضهم الى أن يصفه بأنه "أحد أقطاب فكرة الوطنية وأركان النهضة العربية وإمامها في مصر" (عمر طوسون، "البعثات العلمية في عهد محمد علي ثم في عهد عباس الأول وسعيد" (الإسكندرية)، مطبعة صلاح الدين 1934م، ص: 47.

وحاول الطهطاوي في كل هذا أن يوجد تيار التوفيقية الفكرية بين النموذجين الغربي والإسلامي بشأن هذه الإشكالية (الوطنية) وغيرها من الإشكاليات، وبهذا يكون -وهو عندما يعجب بالنمط الأوروبي ويدعو إلى أن نبدأ من حيث انتهت أوروبا لا يغلف دعوته هذه أو يداريها فهو يريد "أن يوقظ سائر بلاد الإسلام من نوم الغفلة كي يبحثوا عن العلوم البرانية والفنون والصنائع وهي التي كمالها ببلاد الإفرنج ثابت شائع والحق أحق أن يتبع".

والحديث متواصل...،