ابن فرناس.. والأودية الجارفة!

حمد بن سالم العلوي

نحن العرب أوَّل من ضحَّى لأجل اكتشاف طريقة الطيران، فكان ذلك عندما حاول العالم العربي المغربي عباس بن فرناس تقليد الطيور في طيرانها، وعمل الأجنحة ونسي أن يعمل ذيلاً للتوازن، فسقط وتوفِّي على إثر التجربة الأولى والأخيرة للطيران بالنسبة له، ولكن رغم أنَّه خسر حياته في التجربة، إلا أنَّه أعطى المعلومة للآخرين لتقليده، لكنه جنَّبهم بتضحيته الوقوع في نفس الخطأ الذي وقع هو فيه، ومن تلك التجربة القاتلة، أحيا واحدة من أعظم وسائل الرفاهية، والسرعة في قطع المسافات البعيدة، إذن المنفعة التي خلّفها لا تُقدر بثمن، فهل يا ترى خلَّف ابن فرناس للأودية الجارفة بمماته أو شقاء الآخرين بإنقاذه نفس الأثر؟!!

لا أبداً.. لم يحدث أي أثر مفيد من ابن فرناس، هذا الذي يدخل الأودية الجارفة نتيجة التهور والغرور أو سوء التقدير، إلاّ الخسارة والألم والندم لأهله وذويه، وذلك في تجربة دخول الأودية الجارفة، أكان ذلك في الأودية الجارفة بالسيارات، أو سيراً على الأقدام للتصوير وممازحة الأودية الجبارة، وإن كان حظهم اليوم أوفر من حظ ابن فرناس بالأمس البعيد بفيض المعلومات، فهم تلقوا التنبيه من عشرات مقاطع الفيديوهات، وذلك بالصوت والصورة.. وبالألوان كذلك، وقد شاهدوا بأنفسهم، كيف كانت الغلبة في كل مرة للوادي الجبار الذي لا يمزح مع من يتحداه، ولا يلاعب من يُريد أن يلاعبه، ويريد أن يكسب اللعبة في اللحظات الأخيرة معه، وليس من الأمس واليوم وهو يفعل ذلك بمن يستهين به، بل من سنوات بعيدة، وكلما هطل المطر وسالت الأودية، وظل الوادي لا يرحم صغيرا ولا كبيراً في تلاعب أو ممازحة، وكان في معظم الحالات هو الغالب على الخصم البشري.

ولكن الأمر الغريب، وغير المتوقع، أن تكون الجعد وهي غنيمة الذئاب السهلة.. كما جرت العادة لسوء تقديرها لحجم المخاطر، فقد أظهرت في إحدى مقاطع الفيديو أنها الأكثر حرصاً من بني البشر على النفس، فقد هربت من الوادي قبل أن يصل إلى مكان عبورها، وإن كان ذلك العبور لم يخل من مجازفة، فواحدة من الجعد كادت أن تذهب وليمة للوادي، لكنها سبقته بلحظات، وسلمت من أن يجرفها معه، عندما تداركت نفسها في آخر لحظة، وخرجت منه ببعض البلل.

وقد لاحظنا كيف أنَّ صاحب السيارة ذات الدفع الرباعي قد قَدِم إلى وادٍ جارف، هو -ومن معه- بملء السمع والبصر، لكنه دخل إلى عمق الوادي، وكأن الوادي ليس به قطرة ماء، ولما حمله الماء هو وسيارته ومن بها من بشر، كان الوادي كمن يحمل طَرَفًا من زورة يابسة، ولعب الوادي بالسيارة ودورها كما أراد، وتمسخر بها كالقشة، ثم إن ثقلها المختلف عن ثقل الطَّرَف اليابس، فلم تستوي على الجودي وإنما أركسها في حفرة ابتلعتها بالكامل، ولا أعرف كيف تم إخراجها بعد ذلك، ولكن رأيناها تقف أمام مركز الشرطة ذليلة مطأطأة الرأس من هول ما جرى لها.

وقد كانت هناك سابقة في ولاية بهلاء قبل وقت قريب، حيث كان هناك مجموعة من الصبية يلعبون في الوادي عند بداياته، وقد نبَّه عليهم أحد الأشخاص من خطورة الوادي.. فخرج بعضهم، ولكن ظل هناك طفلان ركبا على صخرة في وسط الوادي لعلها تعصمهما من الغرق، وكاد الوادي أن يجرفهما لولا أن جنَّد الله لهم رجلا شهما هماما، غامر بحياته فربط نفسه بحبل طويل، وظل يصارع غضب الوادي ويصارعه في صراع الأبطال، حتى وصل إلى الطفلين وأنقذهما بأعجوبة، وشجاعة نادرة لم تتأت للكثير من الناس، وكانت هذه الحادثة خير واعظ لشباب وادي الحوقين هذا الأسبوع، لو أنهم اتعظوا بما شاهدوا، فقد حذَّرهم ذلك المشهد من اللعب مع الوادي الجارف، ولكن هيهات أن يتعظ بشر اليوم من المواعظ التي تساق إليهم بالمجان، فداهمهم الوادي رغم أنَّ هناك من كان يصيح عليهم بأعلى صوته، محذّراً إياهم من خطورة وضعهم في الوادي، ولكن الأذان كان بها صمم، فلا يسمعون ولا يتعظون ولا يعقلون من حوادث الآخرين.

وذلك حتى يقوموا هم أنفسهم بالتجربة، فأحدهم تداركه بعض الحضور وأنقذوه في اللحظة الأخيرة، والصور التي كان يخاطر بنفسه من أجل التقاطها، ذهبت مع الهاتف الذي سلبه إياه الوادي من يده، وسيلقي به في بحر عُمان، أو سيدفنه في قاع الوادي، لتستخرجه الأجيال القادمة، ويومها سيكون قطعة نادرة "من هواتف أيام زمان"، وعلى العموم المقطع الذي صور في ولاية بهلا للشاب الشجاع "علي الوردي" وهو ينقذ الطفلين العمانيين البهلائيين، استفادت منه منصة إخبارية إسرائيلية لتقدمه عربون صداقة لأهل الفجيرة، فنسبته لشاب من إمارة الفجيرة، واليهود هوايتهم الكذب وقلب الحقائق، ولكن هل أهل الفجيرة الكرام سيقبلون الفرية من أبناء اللئام الصهاينة كما هي؟

إنَّ هذه المجازفات والمخاطرات التي تُذْهب بالأرواح، وتسبب متاعب للجهات الرسمية في الدولة، وتسبب كذلك المشقة لأهل الشيمة والنخوة، وهم يخاطرون بأرواحهم لإنقاذ أشخاص غَدَر بهم غرورهم والإهمال، رغم أن أولئك المجازفين بأرواحهم ما كانوا في ضرورة لِمَا أوجدوا أنفسهم فيه من وضع خطير، ولكن أصحاب النخوة والشهامة لم يدفعوا بأرواحهم رخيصة، لولا القيمة العالية التي يقدّرون بها حياة الإنسان، وإن كان بعضهم لم يعمل بالحيطة والحذر، والتي قدرتها الجعد أمهات الأكباش حق قدرها، واستطاعت الهروب من جرفة الوادي، وقد نجت من الموت، وحتى نقلل من هذه المخاطر، يجب أن تكون هناك عقوبة رادعة لمن ثبت أنه ألقى بنفسه إلى التهلكة، أو جعلها في وضع خطر، نتيجة لإرضاء هوى النفس وحسب، أما من كانت الأمطار قد فاجأته دون إهمال أو تعمّد منه.. فذلك يعذر.