في معنى الغلو الديني وسُبل مواجهته

د. رفعت سيد أحمد

تعيش بلادنا العربية في أغلبها أنماطا جديدة من الغلو والتطرف في فهم الدين وتطبيقه، وهي أنماط كانت بداياتها منذ عقد من السنين مع بدء ما سمي بـ"الربيع العربي" الذي هبت رياحه علينا بحلوها وشرها منذ العام 2011، ورغم أن هذا الغلو قديم قدم (جماعة الخوارج) التي ظهرت في زمن الصحابة رضوان الله عليهم. وتطورت عبر الحقب والأزمان والدول، إلا أنه ازداد شراسة وقسوة مع هذا الربيع الذي أسماه البعض بـ"الربيع العبري" وليس العربي؛ نظرا لأهدافه التقسيمية والفوضوية المدمرة للأوطان والأديان.

واليوم، ومع تراجع الموجات الأولى لهذا الغلو، بدأ الخطاب الإعلامي والسياسي في بلادنا يطور آليات جديدة لمواجهة الأنماط الجديدة لفكر وجماعات الغلو، والتي تمثل الجيل الجديد أو الخلايا النائمة من داعش والإخوان والقاعدة، وسنحاول هنا وفي سبيلنا للمساهمة في هذه المواجهة الجديدة أن نحرر المصطلح ونحدده أكثر، مصطلح الغلو والتطرف؛ وذلك انطلاقا من قناعة علمية ودينية تقول إنَّ التحديد الدقيق للمصطلح وللمشكلة هو البداية الصحيحة للحل.

أولا: لا شك بداية أن الغلو في أي شيء يتناقض مع الفطرة وذلك محل إجماع علمي تخصصي وكذلك محل إجماع شعبي؛ حيث نجد في المثال الشعبي المتوارث العامي "الشيء إن زاد عن حده، انقلب ضده"، وهو مثل يعبر عن وجدان الشعوب وفطرتها وهذه الأمثال غالباً ما تتوافق مع الدراسات والأبحاث العلمية وحول مصطلح الغلو يقول الدكتور "صبري محمد خليل" الأستاذ بجامعة الخرطوم (الغلو لغة: مجاوزة الحد، ومنه غلا السعر، وغلا القدر (لسان العرب، مادة غلا)، والغلو اصطلاحاً: المبالغة والتشدد في التدين التي يلزم منها تجاوز ضوابط الدين ذاته)، وفي فقرة لاحقة (الغلو والبدع: فالغلو آفة تصيب التدين ككسب بشري لا الدين كوضع إلهي والدليل على هذا تقارب معنى الغلو ومعنى البدعة، فالبدعة اصطلاحاً هي الإضافة إلى الدين، والمقصود بالدين أصوله لا فروعه، دون الاستناد إلى نص يقيني الورود قطعي الدلالة)، وفي فقرة لاحقة (الغلو في الدين والجفاء عنه: والغلو في الدين نقيضه الجفاء عنه، حيث إن مضمون الأخير التساهل في التدين الذي يلزم منه التقصير في الالتزام بضوابط الدين، غير أن كلاهما يلتقي في المحصلة (عدم الالتزام بضوابط الدين سواء بتجاوزها أو التقصير في الالتزام بها)، وفي فقرة لاحقة يورد الدكتور "صبري" أدلة النهي عن الغلو في الدين؛ حيث يقول "أدلة النهي عن الغلو في الدين: قال تعالى: "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل" (المائدة:66)، وقال الرسول (ص): "يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من قبلكم الغلو في الدين" ـ رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، واللفظ له عن ابن عباس مرفوعاً ـ وقال (ص): "هلك المتنطعون" "قالها ثلاثاً"، ويقول النووي في تفسير المتنطعون (المتعمقون المتشددون في غير موضع التشديد وهذا يفيد تأكيد النبي (ص) على هلاك المغالين في أقوالهم وأفعالهم، وفيه ذم التكلف والتشدق بالكلام، وأن الشدة لا تأتي بخير).

ثانيا: تناول العلماء أقسام الغلو المتعددة التي يمكن إجمالها في الآتي:

- الغلو الاعتقادي: هو المبالغة في العقائد التي يلزم منها تجاوز ضوابط الدين، ومن أمثلته غلو الخوارج في التكفير... ومن أشكاله عدم التمييز بين الأصول (التي مصدرها النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة) والفروع (التي مصدرها النصوص ظنية الورود والدلالة) وبالتالي المساواة بينهما في درجة الإلزام وحكم مخالفتهما بينما الأولى لا تحتمل التأويل ولا يباح مخالفتها، ومن ينكرها فقد كفر، أما الثانية فتحتمل التأويل، وفي تأويلها اختلف المسلمون ويختلفون دون إثم فمن أخطأ فهو مثوب مرة ومن أصاب فهو مثوب مرتين.

- الغلو العملي السلوكي: هو التشدد في العمل (السلوك) والذي يلزم من تجاوز ضوابط الدين وينقسم إلى قسمين: ـ الغلو في سلوك الفرد ذاته: تشديد المسلم على نفسه في عمل طاعة من غير ورود الشرع بذلك، ومن أدلة النهي عن حديث ابن عباس "أن رجلاً أتى النبي (ص) فقال: يا رسول الله، إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء، وأخذتني شهوتي، فحرمت عليَّ اللحم، فأنزل الله "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم").... ـ الغلو في الموقف من سلوك الآخرين: تشدد المسلم في حكمه على عمل (سلوك) غيره من المسلمين ويتدرج من التشدد القولي إلى التشدد العملي حيث يشمل: الغلظة في الأسلوب والفظاظة في التعامل بخلاف قوله تعالى "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك" ـ استخدام القوة والعنف لتحقيق الغايات، بخلاف قوله تعالى "ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" ـ إلزام الناس بالعزائم والتشديد بخلاف قوله (ص) "اكلفوا من الأعمال ما تطيقون" ـ سوء الظن بالناس بخلاف قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا اجتبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" ـ تكفير المسلمين بخلاف قوله تعالى "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً تبغون عرض الحياة الدنيا".. وإباحة دمائهم بخلاف قوله تعالى "من يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً).

ثالثا: لقد شهدت العديد من البلدان العربية والإسلامية خلال العقد الماضي تحديدا، مظاهر متنوعة وغير مبررة من التطرف والعنف في تعامل فئة من الشباب مع الآخرين، سواء داخل مجتمعاتهم أو خارجها بدعوى أن الأنظمة الحاكمة لا تأخذ بجوهر تعاليم الدين الإسلامي ومبادئه وبدعوى أن مظاهر التخلف وحالات الظلم والاستبداد والفساد التي تعيشها تلك المجتمعات ليست إلا نتاجاً مباشراً لتجاهل تلك الأنظمة لمبادئ الإسلام الصحيح وقيمه وتعاليمه، وأخذها بقيم الحضارة الغربية وقوانينها الوضعية الغارقة في وحل المادية المفرطة.

هذا الجهل وعدم الفهم لمعاني الانفتاح الفكري والإنساني للإسلام العظيم؛ رتب جرائم دموية شديدة الوطأة على وحدة الدول العربية وخلق لنا داعش والقاعدة بغلوهم الذي أساء للإسلام أولا قبل أن يسيئ للإنسانية ولبني البشر. والخلاصة هنا أن هذا الفهم الضيق للدين يحتاج الي إستراتيجية للدعوة وللإعلام تقودها مؤسسات وسطية مستنيرة الفهم مثل الأزهر الشريف ويعاونه في ذلك الإعلام الوطني الواعي والتعليم المنفتح المستفيد من ثورة الاتصالات الحديثة.. إنها مواجهة كبرى ليس فحسب لإنقاذ الأوطان من حالات الفوضى والدم التي يسببها هذا الغلو، بل ولإنقاذ الإسلام ذاته مما ينسب إليه من هكذا غلاة متطرفين...والله أعلم.

تعليق عبر الفيس بوك