الطائيون الفقهاء

ناصر أبو عون

Nasser@alroya.net

الشيخ الفقيه صالح بن عامر بن سعيد الطائي (1)

إنّ الباحث والمتتبع لنتاج الطائيين العُمانيين الأوائل في المخطوطات القديمة المتوارثة، والوثائق والمحفوظات المسجلة، والمرويات الشفهية المتداولة على الألسنة؛ ليجد مكانز ثرية تُخبِئ في مطوياتها وحواشيها آثارًا دفينة، وسيرًا لأزفلة من الأعلام المجهولة، وثلّة من رجالات الفقه والمواريث والنسّاخ لم ينل منها النسيان، وما زالت آثارها صامدةً كالطود المنيف، هامات أحفادهم مرفوعة بما قدّمت أيديهم.

هذا الرعيل الأول من الطائيين الشيوخ والفقهاء يصدق فيه المثل العربي القديم القائل: "إذا ملكت فاسجح"؛ عاشوا للعلم، ومدار حياتهم بين الفُتيا، وعلوم الفقه، ونسخ المخطوطات في العقائد والأديان لأنفسهم ولغيرهم، وقرض الشعر تأريخا وتوثيقا وتبيانا.

وإذا ما دلفتَ بناظريك، وأطلتَ الوقوف على صفحات المخطوطات القديمة؛ لازدانت أفكارك، ونبتت على صفحة خيالك، وترددت على أطراف لسانك أصداء من سيرة الشيخ الفقيه الشيخ الشاعر الفقيه صالح بن عامر بن سعيد الطائي العقري النزوي؛ الذي وُلد وعاش في القرن الثالث الهجريّ.

كان غمرًا كريما في معاشه، يبسط حصير الكرم لجيرانه وزوّاره، يفيض الشعر من بين جوانحه، وتتمخج الصور الشعرية على صفحات قصائده، أذلَّ الدنيا بإعراضه عنها وإن وطأت بساط راحته، وأضجت مضجعه، وأعزّ الآخرة بإقباله عليها، فإذا ما ضرب الشيطان برواقه في ساحته حسر ثوبه، وشدَّ حاشيتيه بكلتا يديه زاهدا في الدنيا الفانية. وقد ورد ذكره في كتاب (الطواونة - تحت الطبع) للباحثة سلمى البطاشية، أنه قال: "وجدتُ في سقف قبر من قبور الأئمة بنزوى مكتوب عليه:

ولا تمشِ فوق الأرضِ إلا تواضعا

فكم تحتها قوم هم منك أرفع

فلمَّا "ضرب دين الله بجرانه" في حواشي نفس الشيخ الفقيه صالح بن عامر بن سعيد الطائي، وملك عليه روحه، وامتزج رضاه عن ربه بدمه ولحمه، قبض على جمر التقوى، ورا يريش اعوجاج من حوله وأتباعه، ويهشّ عنهم الدنيا بتعاليمه ومواعظه، وينشد في حضرتهم قصائده، يفك قيود العاني، ويطرد غوائل الشرّ عن الضعيف الرائح والغادي، ما أصابه رزء إلا وصبر، وما وقعت في حجره مصيبة إلا شكر، ومن شعره المأثور في هذا المعنى:

مقيم إلى أن يبعث الله خلقه

وصالك لا يُرجى وأنت قريب

***

تزيد بلى في كل يوم وليلة

وتبلى كما تبلى وأنت حبيب

كان الفقيه صالح بن عامر الطائي مُولعًا بـ"عُمان" وأهلها، وبـ"بوشر" ومحاريبها، يراها موطن الدين وأولي النُّهى، ومعقل الرضا ومهوى ذوي القربى، ومعوانا له على الصلاح والتقوى؛ ونجد هذا المعنى له في بيتين قرَّضهما في موطن الإجابة عن سؤال استنكاري وجهته إليه امرأة على سبيل المزاحة أو المعاتبة. أوردهما محمد بن راشد الخصيبي صاحب كتاب "شقائق النعمان"؛ يقول فيهما:

وقائلة: ما بالك اخترت (بوشرا)

على سائر البلدانِ، إذ هي أحقرُ

***

فقلت لها: كُفِّي الملامة إنها

بلاد الفتى مِنْ دينه فيه أوفر

حتى إذا ما عرَّجنا على انتمائه العقدي؛ فقد كان الشيخ نافيا للطائفية المقيتة، ومعرضًا عن المذهبية المتشددة، ورافضا للإثنية المفرّقة وكان يراها أحد مداخل الشيطان؛ فمن هذا الباب يفتح أبالسة الإنسان والجان فرجة في عقول العوام ينفذون من أقطارها ويشدون أطنابهم، وينصبون حبائلهم فينكفيْ الناس في الفتنة أرسالا وأشتاتا، وتصير لحمة الوطن والعقيدة مهترئة وأنكاسا، وتتصدَّع حوائط الدين في نفوسهم، وتتفرّق كلمتهم أشعاثا، وساعتها لن يفيد النشيج وإن هملت العيون، واختط مجاريه تحت الجفون وارتفعت الأكف تمسح قيذ الجوانح، وتحوَّلت أحوالهم وصاروا في أوحال الضلال يعمهون. وفي هذا المعنى له بيتان من الشعر؛ قال فيهما:

أيا سائلي عن مذهبي وعقيدتي

إليك مقالي ألقِ سمعك والقلبا

***

فحبُّ جميع الآل والصحب مذهبي

وأبرُّ ممن يبغض الآل والصحبا

وللشيخ صالح بن عامر الطائي منظومة تؤرخ لزيارة السلطان برغش بن سعيد إلى "غلا"، ونفهم من معناها أنَّ تلك البقعة كانت متنزها للاستجمام؛ لطيب هوائها، وارتفاع مكانها، وانعدام رطوبتها، لا ترى فيها زارية، وغير قالية، بساتينها نضرة، وأفياؤها باردة، وأفلاجها جارية. فلما حضر السلطان ليهنأ بالراحة والنقاهة بعد الاستشفاء، أنشد الشيخ قصيدة احتفائية أثبتها حمد بن سيف البوسعيدي صاحب كتاب "الموجز المفيد نبذ من تاريخ البوسعيد"، ط3: 1416هـ/1995م. قال الطائي فيها:

جاءتك من قبل الإله العافية

وأتتك تمشي مشية متواطية

***

أعطاكها الرحمن، إذ صرت امرءًا

أهلا لإدارك الأمور السامية

***

فلك الهناء بها وبالملك الذي

أعطاكه رب القرون الماضية

***

والله نرجو أن نزلت بصحنها

وغلت (غلا) فوق النجوم العالية

***

وتشرفت بك أهلها وبقاعها

واستبشرت للقاك مسقط زاهية

***

يا أيها الملك المعظم (برغش)

إني رجوتك أن تفرّج ما بيه

وللشيخ صالح الطائي أرومة، والمسمى بـ"الطيوانيّ" أرضا ومكانا، ترجمةٌ مختصرة أوردها محمد بن عبدالله السيفي في موسوعته "السلوى في تاريخ نزوى" (ط:1)؛ قال فيها: "هو الشيخ الفقيه صالح بن عامر بن سعيد بن عامر الطيوانيّ العقريّ النزويّ من مشايخ القرن الثالث عشر الهجريّ، نسخ لنفسه كتاب "دعائم الأثر وجواهر الدرر". كما ورد ذكره في كتاب "عيسى بن صالح الطائي، القصائد العُمانية في الرحلة البارونية - ذاكرة عمان، ط1:1434هـ/2013م، ص:66-67) قائلا: "توجد تقييدات على مخطوط بقلم الشيخ صالح بن عامر بن سعيد الطيوانيّ سنة 1284هـ"، وهي: "قد كمل هذا الكتاب بعون الملك الوهاب، وهو كتاب الصلاة يوم 15 من شهر شوال سنة 1284 بيد الفقير صالح بن عامر بن سعيد الطيوانيّ بيده والحمد لله حق حمده".