علاقات على المحك

مدرين المكتومية

يعيشُ المرء دائمًا في علاقات مستمرة.. علاقة تلو الأخرى، حسب المكان والزمان والبلد الذي يعيش فيه، وطبيعة العمل الذي يعمل به، والأسرة التي يسكن معها؛ فعلاقات الصداقة بين الأطفال في المدرسة تختلف عن علاقاتهم عندما يدخلون الجامعة، وتختلف أيضا عن علاقاتهم عندما يلتحقون بالوظيفة، وهكذا يختلف نوع العلاقات بنوع الوظيفة، فهناك وظائف لا يمكن فيها بناء علاقات صداقة قوية، وهناك وظائف تساعد على بناء علاقات متينة تبقى ما بقي الزمان. وفي المقابل، تجد علاقات هشة، ضعيفة، بين بعض البشر.

هذه العلاقات جميعها ترتبط بالحالة النفسية للفرد، فعندما يكون الإنسان عادة في حالة نفسية جيدة تكون علاقاته صالحة، وصادقة، ومريحة، بينما عندما يعاني تحديات نفسية وعراقيل اجتماعية قد تجد هذه العلاقات غير إيجابية، بل وسلبية في كثير من الأحيان، وهذا يدفعنا إلى السؤال حول علاقة الفرد بمجتمعه: هل هي علاقة قائمة على الود والتراحم، أم على التنافر والتباغض؟!

حقيقة أدركتها على مرِّ السنين، وخلال مسيرتي المهنية والحياتية، أنَّ العلاقات متشعبة ومتداخلة ومتشابكة.. المهم فيها أن تكون قائمة على الاحترام والصدق والإخلاص، لا أن تكون قائمة على الغش والخداع، لا يجب أن يُطالب أحد الفردَ بأن يبني علاقات قوية مع كل البشر الذين يلتقي بهم في طريق حياته بمحطاتها المختلفة، بل عليه أن يمتنع عن إقامة هذه العلاقات القوية مع بعض البشر الذين يلتقي بهم؛ فهناك أناسٌ نلتقيهم في حياتنا لمرة ولربما مرات، لكنهم لا يمتلكون شيئًا مما نمتلكه من نوايا صافية، بل يملأ الحقد والخبث والشر دواخلهم، ولا يُمكن لهم أن يحبوك أبدًا؛ فهم في العادة يفقدون حبهم وتقديرهم لذواتهم، فلا يُمكن بالتالي تقديم ذلك لغيرهم. وهنا وجب علينا أن نبتعد فورًا.

وبالمقابل علينا أن نقترب ممن يفهموننا، ممن يقدرون مشاعرنا، ممن يستوعبون أفكارنا، فإذا لم نجد الصديق الذي لا يستمع، ولا ينصت، ولا يتفاعل، فهذا مثله مثل "الأصدقاء الافتراضيين العابرين"، الذين لا همَّ لهم سوى حصد الإعجابات ومواصلة المشاركات.

علينا أن نختار علاقاتنا بعناية فائقة، ليس كل من قال: "صباح الخير"، أو "كيف حالك"، أو "طمئني على صحتك"، يعنيها، أو شخصا يحمل الود لنا في قلبه، بل ربما إنسان لديه مصلحة ما، تنتهي علاقتك به بنهاية مصلحته.

علينا أنْ نقترب ونتمسَّك بأصدقائنا الذين يصدقُوننا القول والفعل، الذين يشعرون بمشاعرنا، ويتألمون لآلآمنا ويفرحون لفرحنا ويحزنون أيضا لحزننا، غير ذلك علينا أن نُكيِّف أنفسنا على علاقات عادية، بل وعادية للغاية، لا يجب أن تتعمَّق في مثل هذه العلاقات مهما كانت، لا يُمكن أن نربط أنفسنا ونرهن أرواحنا لآخرين نظن أنهم أصدقاؤنا، ونظن أنَّنا على علاقة طيبة بهم، وهم في حقيقة الأمر ليسوا كذلك.

إنني أتذكر في مرحلة ما من مراحل العمر، ارتبطُ بأصدقاء كُثُر، وحملت لهم بدواخلي كلَّ الحب والود، وتعاملت معهم بنوايا طيبة، لكنني في لحظة ما -وقد تكون لحظة فارقة- اكتشفتُ أنْ لا ودَّ يبقى ولا مشاعرَ تدوم، ولا كل من نُطلِق عليهم أصدقاء هم أصدقاء.. لربما لأن الصداقة لا تُقاس بسنوات العمر بقدر ما تقاس بمواقفها ولحظاتها.

هناك لحظة واحدة ستمرُّ على الإنسان، سيدرك فيها أنَّ كل هؤلاء البشر ليسوا إلا استنزافًا لمشاعره، ووقته، وحياته أيضا، وليسوا جديرين بلحظة واحدة من العمر، وأن الحياة بدون البعض منهم أفضل حالًا وأكثر نجاحا وإنجازا.

ففي تلك اللحظة فقط ستُدرك أنَّ بعض العلاقات ما هي إلا بشر لا يريدون منك أن تكون أفضل منهم، فيَجرُّونك لمستوى الحياة التي توقَّفوا عندها، وهذه العلاقات ليست صحية أبدًا. العلاقة التي لا تصنع منك شخصا قويا وقادرا على المواجهة هي علاقة لا تستحقك. إننا بحاجة لعلاقات تُشبِهنا، وأكثر قربًا منا، وتحمل بداخلها تلك الصفة غير الظاهرة ربما هي "النقاء"؛ فالإنسان النقي من الداخل هو إنسان بمقدوره أن يكون دائما في تناسب مع كل الأشخاص، ولكن مشكلته الحقيقية أنَّه لا يُمكن أن يجد من يشبهونه... إلا نادرًا.