نفوس تبحث عن معنى

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

نُدرك العالم من حولنا بما نملكه من مُعتقدات وخبرات، إلا أننا في رحلة البحث الطويلة، وفي إحدى مراحل حياتنا، قد نفقد البوصلة والمعنى، كم من المرات شعرت بالملل من حياتك وأنك تفتقد إلى شيء ما، شيء يُشعرك بالرضا والراحة، لكن لا تعلم ما هو، وتساءلت عن معنى حياتك: البعض يفقد المعنى عند وفاة شخص عزيز ارتبطت سعادته به، والبعض يعتقد أنَّ العمل ما يجعل لحياته معنى، إلا أنَّ كل ما سبق ليس سوى حجج ومبررات لشعورنا بالفراغ الروحي وفقدان حب الذات واحترامها..ماذا يحدث للإنسان إن فقد معنى الحياة، وأصبح يُعاني من جراء فراغ المعنى.

معنى الحياة قضية شغلت معظم التيارات الفلسفية على مدار العصور والأزمنة، وانبثقت عنها عدة مدارس فلسفية، تفسر الحياة؛ فقد فسَّر أفلاطون الحياة بتنمية الروح والجسد. أما أرسطو، فإنِّه اعتبر الحياة أفعالاً خيِّرة، ويراها البعض عبارة عن متع حسية. وصوَّر الشاعر إيليا أبو ماضي الصراع النفسي الذي يعيش فيه الإنسان بأبيات جميلة:

 جِئتُ لا أَعلَمُ مِن أَين وَلَكِنّي أَتَيتُ

وَلَقَد أَبصَرتُ قُدّامي طَريقاً فَمَشَيت وَسَأَبقى ماشِياً إِن شِئتُ هَذا أَم أَبَيتُ

... إلى آخر الأبيات.

ويُعًرِّف علماء النفس فراغ المعنى، أو الفراغ الوجودي، بحالة يشكو منها الإنسان الذي لم يعد قادراً على التطلع للمستقبل، ولا يعرف موقعه من الحياة، وليست لديه أهداف يحققها، وقد يتحول الفراغ -إذا لم يتم تعبئته- إلى أمراض نفسية تحتاج إلى العلاج النفسي.

يُعاني الناس في زماننا من الملل والجري وراء الملذات، في رحلة البحث عن السعادة الأبدية.. يقول الطبيب النفسي فيكتور فرانكل: "إنَّ الفراغ الوجودي يجعلنا ننغمس في المتعة، ونملأ حياتنا بالكراهية والغضب، والصراعات وتحطيم كل شيء نعتقد أنه قد يتسبب في الضرر؛ فالتوتر الناتج عن البحث عن المعنى يفقد الإنسان توازنه. مليارات من الأدوية المهدئة للأعصاب يستهلكها البشر كي يحظوا بشيء من الهدوء والتوازن، إلا أنَّ ذلك لم يمنع بعضًا ممن يتناولونه من الانتحار؛ فالصحافة تطالعنا بين الحين والآخر بقصص لانتحار المشاهير والأغنياء الذين يملكون كل شيء إلا المعنى الوجودي.

الفراغ يقتل أفضل ما في الإنسان، ويتحوَّل إلى حاجز بين الروح والذات، وفجوة عميقة فارغة.. فما بالك أنْ يفقد الإنسان سبب وجوده، إنَّ فراغ المعنى هو أزمة فقدان الهوية والعزيمة، حينها يصبح الفرد خارجا عن نطاق السيطرة ويعاني حالة من الضياع وفقدان الدليل الإرشادي الروحي. من السهل التلاعب بعقول من يعانون الفراغ الوجودي؛ لذلك نجد الكثير من اليافعين يُصبحون فرائس سهلة للعابثين وأصحاب الأفكار المؤدلجة، فيحولونهم إلى أدوات هدم للمجتمعات، ووقود للصراعات الفكرية.

من أسباب الفراغ الوجودي: غياب الوعي بأهمية تنمية الجوانب الروحية والقيمية والأخلاقية في الإنسان، والتركيز على الماديات وتغذية الاحتياجات الجسدية على حساب الروح.

من المُؤسف أنَّنا نرى بعض الأهالي يُسهمون في تعميق الفراغ الوجودي، بعقلياتهم المتسلطة، ورفضهم لمبدأ الحوار مع الأبناء، فلا يستمعون إلى أفكار أبنائهم ويتعاملون مع تساؤلاتهم بشيء من العنف، أو يجبرونهم على اختيارات لا تتناسب مع أحلامهم وقدراتهم؛ اعتقاداً منهم بأنهم الأدرى بالمصلحة، ولا يساعدونهم على تحديد الأهداف الحياتية أو كيفية صياغتها.

... إنَّ دور المرشد الاجتماعي يبرُز هنا، لاسيما في المدارس والجامعات لمساعدة اليافعين والأطفال على اكتشاف ذواتهم وحل مشكلاتهم ووضع أهدافهم الحياتية، مُكملين دور الأسرة.

اصنع ضجيجًا إيجابيًّا في حياتك.. فالفراغ لا يحب الزخم والعمل، والحياة لا تتوقف عند أحد أو مشكلة أَحِب ذاتك واحترمها لتشعُر بأهميتك، ولا تقلل من قدراتك وأهميتك كإنسان، وسترى السعادة التي تستحقها. لذلك؛ علينا أن نحاول أن نفهم أسباب شعورنا بالضجر أو الاكتئاب بالبحث في دواخلنا ومعالجة جروحنا وتجاوزها، وأفضل طريقة للبوح: التعبير عن المشاعر وإخراج الطاقات الكامنة لدينا بممارسة شيء نحبه ونألفه كالهوايات.

إنَّ الهدف هو الحافز الحقيقي للمضي قدماً وبث الروح في أجسادنا، وبدون الهدف سنعيش في حالة من عدم الراحة والملل والحزن والكآبة على واقعنا، والدوران في حلقة مفرغة من تأنيب الذات والبكاء على فقداننا للأهمية. لذلك؛ من الضروري أنْ نبحث عن المعنى لحياتنا وإعادة توجيه البوصلة واكتشاف الذات ووضع أهداف للحياة والسعي لبلوغها والإجابة عن الأسئلة: من أنا؟ وماذا أفعل هنا؟ وإلى أين أرغب أن أذهب؟ فالمعنى أقوى حافز للإنسان، ويكون للحياة معنى إما بالعمل أو تجربة شيء ما أو مواجهة مخاوفك.

 

* باحثة عمانية