ريفي في جامعة السلطان (5-5)

علي كفيتان

كُنت على عَجَل؛ فموعد إقلاع الطائرة بعد صلاة العشاء، وما زاد من توتري عدم وجود سيارة في البيت ذلك المساء، لتقلني إلى المطار.. أخذت "دش ساخن" وقذفت بملابسي المعفرة بتراب الخريف في طرف المجلس، واستبدلتها بأخرى تُلبس لأول مرة، لقد ضايقتني الفانيلة الداخلية، فلم نكن معتادين عليها، لكنها أصبحتْ جزءًا من الضروريات، بعد اليوم أقفلت حقيبتي ودلفت إلى الخارج قاصدا الشارع من أجل سيارة أجرة في تلك الأثناء، وقفتْ الكروزر "أبو شنب" الحمراء أمام البيت، سألني أبو أحمد عن وجهتي، فقلت له وأنا أدخل الكبينة: "إلى المطار"، كانت السيارة نظيفة من الداخل ومزينة بتطريز من الزري، وتتدلى من منظرتها الداخلية مسابح وأدعية، وصورة صغيرة للسلطان قابوس باللباس العسكري، تفوح منها رائحة العطر، وأيوب طارش يصدح من مسجلها مردداً: "خذني معاك.. خذني معك.. ويا حبيبي، شتبعاك".

وصلنا المطار، وودعني أبو أحمد مُترجلاً من السيارة، وانطلقتُ مسرعاً للداخل خوفاً من فقدان الطائرة، وبما أنها المرة الأولى لي كمسافر، كانت كل معرفتي بالمطارات والسفر بالطائرات مُستمدة من الأفلام الهندية والمصرية، وقد أفادتني كثيرا، لمحت القاعة المكتظة بالناس، وسألت الشرطي عن الطائرة المغادرة إلى جامعة السلطان قابوس، فابتسم على الفور، وقال: "تقصد مسقط"، فجاوبته بالنفي، وذكرت له أنَّني طالب ووجهتي هي الجامعة، عَلتهُ ابتسامة عريضة، وقال لي: "اجلس في هذا الصف، وعندما تصل إلى الموظف أعطِه التذكرة والجواز"، فجلست فوراً، وفتحت الشنطة لإخراج المطلوب والوقوف في الصف.

واجهني ذلك الشاب المبتسم قائلاً بصوت مرتفع: "مبروك، رايح الجامعة"، قلت له: "نعم"، أخذ التذكرة والجواز وأعادهما إليَّ بعد أن ختم على التذكرة، وقال: "توكل على الله"، لم أرَ أحدًا أعرفه من زملائي في الأرياف، لقد غادروا على طائرة العصر، لكنَّني وجدت شابًا أعرفه من المدرسة السعيدية اسمه عبدالحميد، وفي الممر تعرَّفتُ عليه أكثر، وما أراحني أنَّه معي لنفس الوجهة، لكنَّه كان شابًا هادئًا ومتحفظًا قليلاً، وعندما طلب مني الشرطي وضع حقيبتي على السير المتحرك للفحص، توقعت أنَّه طلب مني الصعود، ولكن ربَّك ستر، وأوقف الرجل السير وصاح بأعلى صوته: "ياخي كان قتلت نفسك"، وقال لي وهو متوتر: "شل شنطتك ياخي وروح"، وهو يتمتم ويدعي؛ فكانت هذه هي بداية العثرات، فقد عرق كل جسدي، بينما عبدالحميد ذهب بعيدا، وجلس بعيداً عن هذا الريفي المتهور.

كانت قاعة المغادرة صغيرة في مطار صلالة، ومكتظة، ومعظم الركاب من البنات مع عدد من الأجانب، جلستُ إلى جانب عجوز إنجليزي يقرأ كتابًا، وقلت في نفسي لقد وجدت ضالتي، سألتصق بالعجوز وأقلده فيما يفعل، لم يُعرنِي أيَّ اهتمام مطلقاً، وعندما نادى المنادي للمغادرة، قُلت في نفسي والله المستعان، وتسمرت خلف العجوز، وصرت أقلده فيما يفعل، فوضعت التذكرة في يميني والجواز في شمالي كما فعل، وسلمتها للموظف كما فعل، لكن الرجل أخَّرني قليلاً وهو يُدقق في التذكرة، فانطلق العجوز إلى الساحة، ولحقته على عجل، وعندما دخلنا الطائرة وضعتني الأقدار في مقعد بعيد عن الرجل، فقُلت في نفسي ضاع الدليل، انتظرتُ بينما دخل وفد البنات، وعلمت لاحقاً أننا نسير إلى نفس الوجهة، أتاني المضيف وطلب مني أن أنتقل إلى مقعد آخر لأفسح المجال للسيدات، فكانت فُرصتي التي لا تُعوَّض، فانطلقتُ وتسمرَّت جنب العجوز، نظر إليَّ وعاد بهدوء إلى كتابه، ومن هذه اللحظة بدأت الملاحقة بيني وبين العجوز، وبعد إغلاق الأبواب شَرَح لنا المضيف إجراءات السلامة والهبوط في البحر، فتذكرت أنني لا أجيد السباحة.

ربطَ العجوز الحزام فربطته كما فعل، وانطلقت الرحلة الأولى خارج الديار، وعندما ارتفعتْ الطائرة في السماء المُلبَّدة بغيوم الخريف، قال القبطان: "أهلاً بكم على متن طيران الخليج، على الرحلة المتجهة إلى مسقط العامرة"، وذكر بقية التفاصيل المتعلقة بالرحلة والطقس والوقت المتوقع للوصول. عقب ذلك، أتت عربة الأكل، وهنا طبقت كل ما فعله العجوز الإنجليزي: أخذ الوجبة فأخذت، وفردها على الطاولة ففعلت، وسحب المنديل ووضعه على صدره فقلدت، ومن ثمَّ بدأ بالسَّلطة وبعدها قطع الدجاج والأرز وحبس بقطعة الكيك مع التمر، وأنا لم أكذب خبر فقد كنت بارعاً في كل المهارات التي تمتع بها الرجل، وبعد ساعة ونيف من الطيران الأول في سماء بلادي، رأيتُ من النافذة عاصمة قابوس بن سعيد وهي تتلألأ كالجوهرة، ما أجمل مسقط وما أجمل الحلم بغد أفضل.

حطَّت الطائرة وأنا لا أزال أسير على أثر العجوز، وقبل أن نصل بوابة الوصول، التفت لي مبتسماً، وقال لي بالإنجليزية: أنت تسافر للمرة الأولى؟ فأومأت له بالإيجاب، وعندها رفع يده وأشار بإبهامه مُعجباً، وفي الصالة وجدنا لوحة يحملها رجل، مكتوبًا عليها جامعة السلطان قابوس، تحلَّقنَا حوله نحن بضعة أولاد وجمع غفير من البنات، فاصطحبنا للحافلة التي مَخَرت عُباب مسقط إلى البوابة شبه المظلمة، ففُتح الباب دون تفتيش ولم يسألني أحد عن تصريح دخول الجامعة الذي كان في يدي ليستقر مقامي في الجناح (ج)، بالوحدة السادسة، الغرفة رقم (5). ومن هُنا، بدأت رحلة كفاح أخرى.. رحم الله السلطان قابوس، وحفظ الله بلادي.