حديث في زوايا الصمت

أمل بنت صالح اليافعية

حين يتحدَّثون، لا ينفك يسأل عن أي كلمة سمعها في الحوار بكل أدوات الاستفهام، لعلَّه يصل لمنطق الحديث، ويفهم محور النقاش، إلى أن ينتهي ذلك الضجيج.. لكنَّهم لا يردُّون عليه، وكأن صوته لا يحوي نبرةً مسموعة، أو درجة الصوت لا تظهر بمقياس الحديث، فلا يصل لمسامعهم ولا يَعبُر خلال ذبذبات الحوار المشتتة في أنحاء الغرفة.

غريبٌ أمرهم، كيف لا يصغُون إليه وهو مُثابر في استفساراته، لا يكترثون لإلحاحه، ولا يلفتهم تغيُّر حدة صوته وكثرة سؤاله. "لماذا؟" قالها مُوجِّهاً سؤاله لنفسه، مؤملاً أن يجد الإجابة عن صمتهم تجاهه، حتى استمع بهدوءٍ شديد لصوت أنفاسٍ خافتة بالقرب منه، حاول أن يختلس النظر لرؤية من حوله، لكنَّ الغرفة كانت حالكة السواد ولا يرى سوى خط أفقي ذهبي وسميك أقصى مد نظره على مستوى كتفه الأيسر، وميض يختفي ويعود من ذلك المكان، مسبباً اضطراب السواد في الغرفة.

"يا هذا!" مخاطباً الوميض لعله يستجيب، وساد الصمت فجأة ثم عادت الأنفاس الخافتة تقترب منه أكثر. عاود صوت الحديث من جديد، لكنه أدرك أنهم خلف ذلك الخط الذهبي أقصى اليسار، لم يستطع فهم الحوار هذه المرة لكن ضجيجهم يزعج سواد الغرفة ويجعل تلك الأنفاس تتزايد!

يداه مُثقلتان وكأنهما مُثبتتان بأصفادٍ فولاذية لا تمكنه من رفعهما من على فخذيه، ويلتف حول كفه الأيمن خيطٌ به حبيبات ملساء، يشعر بثبات قدميه على أرضية مخملية يتحسسها بكعبه وأصابع قدمه، وظهره متكئا على شيء قائم لجعله معتدلاً قدر الإمكان، مجاهداً رفع رأسه المتدلي ليبعد ذقنه من على صدره، وتعاود تلك الأنفاس تتعالى بالاقتراب أكثر، حتى أدرك أنها تلك أنفاسه تصارع دون اختناقه، وفزَّ بضرب قدميه بالأرض لرفع رأسه المتدلي ليستند على مخدة الكرسي خلفه، وسقطت من كفه السبحة التي اعتاد أن يتحسَّس حُبيباتها وهو يُردد ذكر الله تعالى.

نَظَر أمامه ليرى زاوية الغرفة وقد انعكس عليها الضوء الذهبي وكأنه سال من تحت حد الباب وارتفع ليتسلق الجدار وصولاً لأقصى السقف، وحينها تصاعدتْ أحاديثهم بوضوح، تلك الحوارات المُبهمة تهافتت كلماتها على مسمعه، وما هي إلا لحظات حتى تمكن من النظر لأركان الغرفة وتفقد ما بها، مُتمنياً أن يجد ما يُعيد له قدرته لاستيعاب مكانه، واستيضاح حالته القابعة هناك.

طاولة جانبية بسطح مستوٍ، يتوسطه بروازٌ خشبي مزخرف به صورة قديمة لعائلة كبيرة، تحول بينه وبين الأوجه المجتمعة بها مسافة سبع خطوات، ساعة يد معدنية موضوعة على جانبها ويبدو من حجمها أنها رجالية، مزهرية بيضاء صغيرة تُشبه الكأس طُبِعَت عليها بعض الأزهار الملونة وبداخلها وردتان حمراوان، زجاجات ضئيلة عليها ملصقات بأحرف أجنبية، وكوبٌ شفاف يرى من خلاله نقشات الجدار مائلة وصحنٌ صغيرٌ قد وُضِعَ مقلوباً على حد الكوب معطياً إيحاء غطاء. يليه سريرُ موازٍ، له حاجز جانبي على ما يبدو للاتكاء عليه، مغطى بفراشٍ أبيض ووسائد محشوة مختلفة الحجم، وحذاء بُني بسيط يجاور السرير مقابلاً الباب.

"ها قد أفاق!" قال أحدهم، لم يُدرك أنَّ الشمس قد غربت، وهو جالسٌ يواجه القِبلَةَ حين غفت عيناه أثناء الصلاة، وتحت قدميه سجادته الزرقاء المطرزة باللون الأبيض وشكل الكعبة الشريفة تحت عكف المصلى الذي به فجوة خيوطٍ خفيفة باهتة الزرقة عند موضع الجبين.. لينسى كل ذلك مُكرَراً: مَن هم؟ وهل يستمعون إليه؟ وأين صوته؟ ولماذا لا يردون؟ وما هي تلك الأنفاس الخافتة؟ وكم حديث يضجُّ بغرفته؟ وكيف يستمر الحديث في زوايا الصمت؟!!!

تعليق عبر الفيس بوك