الأمم الأخلاق (5)

د. صالح الفهدي

 

تعليم الأخلاق

أخبرني جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- ذات يوم أنه درس في مدارس لبنان في الستينيات من القرن الماضي، حصة تسمى "التهذيب" ضمن مقررات التعليم المدرسي، ثم درسها في المدرسة السعيدية بمسقط، فنقلت ذلك إلى معالي وزيرة التربية والتعليم بمرفق باقتراح مني أن تضاف حصة تسمى "القيم" على غرار "التهذيب"، وعلى الرغم من الترحيب بالفكرة إلا أنها لم تظهر في واقع المقررات الدراسية.

ما أحوجنا إلى "تعليم الأخلاق" بتركيز وتكريس؛ فإذا كانت الأخلاق تدرس في فترات الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، حيث لا وسائل تواصل اجتماعي، ولا منصات إعلامية ولا شبكة عنكبوتية، في وقت كان فيه المجتمع مربيا مساندا للأسرة، فكيف هي الحال اليوم وقد تكالبت المؤثرات المختلفة على جميع الفئات والشرائح ذكورا وإناثا.

لقد رأى "لي كوان يو" مؤسس سنغافورة، أنْ لا شيء يمكن أن يغير من أخلاقيات دولته الصغيرة التي كانت مجرد "خردة محطة" استخدمها البريطانيون إبان استعمارهم، سوى أن يقوم التعليم بتغيير الأخلاقيات لدى الأجيال، لهذا يقول في كتابه "قصة سنغافورة": "أنا لم أقم بمعجزة في سنغافورة، أنا فقط قمت بواجبي نحو وطني، فخصصت موارد الدولة للتعليم، وغيرت مكانة المعلمين من طبقة بائسة إلى أرقى طبقة في سنغافورة؛ فالمعلم هو من صنع المعجزة، هو من أنتج جيلا متواضعا يحب العلم والأخلاق، بعد أن كنا شعبا يبصق، ويشتم بعضه في الشوارع".

التعليم هو الآلة الفاعلة لإحداث التغيير في المجتمع، لأنه يصنع أساسا، ويبني قاعدة، ويبني عقولا عمادها الفكر، والوعي، والرؤية الحصيفة، وقوامها العمل الجاد، والنظرة الحكيمة للأمور، وقاعدتها الأخلاقيات الفاضلة التي ترتقي بالشخصية الإنسانية إلى آفاق العزة والكرامة والحرية.

نستحضر في معرض هذا الكلام دولة اليابان التي وجدت أن انحرافا ملاحظا قد بدأت تظهر أعراضه في أخلاقيات النشء الياباني، فبدأت من العام 2018 بإقرار تدريس مادة "الأخلاق"، فكيف تفعل ذلك دولة تستند إلى تقاليد وأعراف ولا نفعل نحن أتباع أعظم ملة خاتمة للرسالات، بعث نبيها لإتمام مكارم الأخلاق؟! هذا أمر لافت في الحقيقة يحتاج إلى بحث أسباب النكوص والإعراض عنه، ولعل ما سمعناه وسنسمعه أن المناهج "مشبعة" بالقيم والأخلاقيات، بيد أن التركيز على الأمر شيء، والتلميح له شيء آخر!

وحين نذكر أثر الأخلاق على المتعلم أذكر قصة الشاب العماني الذي درس في الثمانييات على يد معلم سعودي، وكان عمر الطالب آنذاك ثماني سنوات، ثم غادر المعلم، وبعدها بتسع سنوات بدأ الطالب يبحث ويسأل عن معلمه، لكن الله شاء أن يلقاه بعد أربعة وثلاثين عاما في بيته بمدينة (أبها) بالمملكة العربية السعودية، فإذا به يقول له أول ما قال "علمنا الأدب"، والأدب هو الأخلاق، وهو لب العلم قبل أن يكون كساؤه، فما نفع علم دون أخلاق؟!

يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم:  

والعلم إن لم تكتنفه شمائل...

تُعليه كان مطية الإخفاق

لا تحسبن العلم ينفع وحده...

ما لم يتوج ربه بخلاق

ولا شكَّ أنَّ التاريخ يسرد لنا قصصا عن الخلفاء والملوك والأمراء الذين يطلبون المؤدبين لأبنائهم قبل أن يطلبوا المعلمين؛ فالأدب مُقدَّم على العلم، لهذا قُدِّمت "التربية" -وتعني الأدب والأخلاق- على "التعليم" في وزارة التربية والتعليم؛ فلا يمكن أن تجهل التربية ويُعنى بالتعليم، يقول عبدالله بن المبارك: "نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم"، وأقول في قصيدة لي عن حاجة العلم إلى الأدب:

ما العلم إن لم يكن فصلا من الأدب...

إلا زخارف في لوح من الخشب!

وما المعارف إلا فضل مكرمة...

تنال رتبتها في صـورة التعب

خُلاصة القول إنه لا أهمية للعلم إن لم يرسخ بالأخلاق؛ فالعلم إن كان كجذع شجرة؛ فالأخلاق جذورها، يقول الكاتب أشرف عابدين في مقالٍ له بعنوان "ينقصنا الأدب أكثر من العلم": "فالعلم ليس مجرد كتب تحفظ أو معلومات تلقى أو صفوف تدرس، بل هو تربية وإعداد، وترسيخ مفاهيم، وغرس قيم وأخلاق"، ونحن في أشد الحاجة اليوم إلى تعليم الأخلاق لما يعتورنا من تحديات أخلاقية شديدة الوطء على قيمنا وهوياتنا، بل وعلى وجودنا ومصيرنا!