حق الوقفة.. طيوي نموذجًا

كيف تحتفي ثقافتنا الشعبية بالطفل؟

د. مبارك بن خميس الصلطي

mubarakalsalti84@gmail.com

يُمثّل الاحتفاء بالطفل أهمية بالغة في ثقافتنا العمانية المستمدة من الثقافة الإسلامية الأصيلة. وينظم العمانيون مناسبات اجتماعية حميدة تهدف إلى تعزيز ارتباط الطفل بمجتمعه من خلال عناية "الكل" الذين يمثلون أفراد المجتمع الذي يعيش فيه الطفل ووصلها بالعادات التي توارثها الآباء عن الأجداد لتكون الغاية هي إدخال السرور والبهجة إلى قلوب الأطفال أولا ثم تعظيم واحترام الأيام التي تقام فيها تلك المناسبة.

ومن هذه العادات الجميلة والفريدة من حيث زمانها الذي تقام فيه، مناسبة "حق الوقفة" والتي تقام في نيابة طيوي بمحافظة جنوب الشرقية. ومن اسمها "حق الوقفة " فهي ترتبط بوقوف الحجيج من يوم التاسع من ذي الحجة على جبل عرفات. وهو اليوم الذي يحرص المسلمون على صيامه تطوعا نظرا لثوابه العظيم ، فقد أخبرنا نبينا المصطفى- صلوات الله وسلامه عليه- عن أهمية صيام هذا اليوم لغير الحاج فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث صيام يوم عرفة: (صِيَامُ يَومِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ علَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتي بعده).

وتولي الأسر العمانية في طيوي لهذا اليوم أهمية بالغة ، فتقوم بتجهيز "الخردة"، وهو لفظ يطلقه العمانيون على العملات الصغيرة من النقود من فئة النصف ريال والمائة بيسة والخمسين بيسة. كما يجهزون أطفالهم بالملابس الجديدة لينطلق الأطفال مع شروق الشمس بين المنازل في الحارات ويطرقون الأبواب قائلين: شي حق الوقفة؟

وتكون معظم الأبواب مفتوحة وما على الطفل إلا أن يقرع الباب للاستئذان وإعلام أهل المنزل بوصوله فيتم الترحيب به وسؤاله عن حاله وأحوال أهله ثم إعطائه الهدية التي تكون في معظمها عبارة عن النقود ولكن بعض البيوت حديثا تقدم أيضا هدايا صغيرة مثل الألعاب مع النقود. وفي البيت الواحد يتعدد أحيانا مقدمي النقود فتجد الجدات والأجداد بجانب أبنائهم من الرجال أو بناتهم من النساء.

وتزدحم الطرقات بالأطفال الصغار البنات والأولاد من أعمار الخمس سنوات إلى عشر سنوات وهم يتنقلون بين زقاق المنازل وتعلو سيماء وجوههم الفرحة والبهجة. وتنتهي "حق الوقفة" حوالي العاشرة صباحا. يعود بعدها الأطفال لمنازلهم حاملين نقودهم وهداياهم لعدها والاحتفاظ بالجزء الأكبر منها وصرف الباقي مما ينعش المبيعات في المحلات الصغيرة في ذلك اليوم .

 

وكما يقول القاضي الكندي الشهير سيدني هاريس (1917- 2009): "الحياة الطيبة عبارة عن مجموعة من الذكريات السعيدة". استطاعت "حق الوقفة" نقش "أجمل الذكريات" في عقول وقلوب الأسر مما جعلها حريصة على استمرار هذه الفعالية عاما بعد عام.

ولا يستطيع الكاتب تتبع نشأة هذه العادة في طيوي، فهي قديمة جدا حسب رواية " الشياب" وهم كبار السن، إلا أن شكل الهدية اختلف مع اختلاف وتبدل الحالة الاقتصادية للدولة مع قيام النهضة المباركة والتي أرساها المغفور له صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه.

فقديمًا، كانت الهدايا عبارة عن بيسة أو بيستين وأحيانا ثلاث بيسات مع تمرات قليلة ثم استبدل إلى الأرز. وقد انتشر استخدام الريال النمساوي أو دولار ماريا تريزا في عمان وكذلك الروبية الهندية منذ بداية القرن التاسع عشر الميلادي .

وما يشد المتابع في هذه العادة الجميلة، أمرين: الأول: اختيار أهالي طيوي لهذا اليوم المبارك -بإجماع المسلمين - لإخراج صدقاتهم اليسيرة على أحب خلق الله إليه، وهم الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم .

الثاني: احتفاؤهم بالأطفال وتخصيص هذا اليوم لهم مع غمرة اشتغالهم بالاستعداد لعيد الأضحى المبارك .

وهذه العناية بالأطفال ومحاولة إسعادهم من خلال إقامة المناسبات الاجتماعية والدينية التي تتمركز حولهم مثل التهلولة التي تقام في الأيام التسعة الأولى من ذي الحجة وكذلك "حق الوقفة" في اليوم التاسع من ذي الحجة بطيوي تعتبران مناسبتين اجتماعيتين خاصتين بالأطفال فقط في سلطنة عمان.

وكذلك القرنقشوه ومرادفاتها كما يطلق عليها في دول الخليج العربي حيث تسمى في البحرين القرقاعون وفي قطر بالقرنقعوه وفي العراق تسمى "ما جينا " وتقام في الخامس عشر من شهر رمضان المعظم.

ومن هنا فإن ثقافتنا الشعبية وعاداتنا الاجتماعية فيما يخص الاهتمام بالطفل تعتبر متقدمة على غيرها من ثقافات العالم لأن الأعياد الدينية والقومية منتشرة مع كل الشعوب وفرحتها تشمل جميع الفئات العمرية صغارا وكبارا. ولكن تخصيص أيام معينة في كل عام للأطفال وربط هذه الأيام بالمناسبات الدينية في ثقافتنا الإسلامية له دلالات كبرى دينية واجتماعية وقيمية تربط الطفل بهويته ومجتمعه.

وقد أخذ الاهتمام بيوم القرنقشوه اهتماما رسميا في السلطنة ، فصار هذا اليوم مناسبة لتخصيص البرامج الإعلامية في التلفزيون والإذاعة للاحتفال وتقديم الهدايا للأطفال في الفعاليات الحية في المجمعات التجارية وجمعيات المرأة العمانية والأكاديميات الرياضية التي تهتم بالبراعم والبنوك وغيرها من المؤسسات. ويجب أن يمتد الاهتمام أيضا وخاصة في الجانب الإعلامي منه إلى فعالية "حق الوقفة" في طيوي وذلك لأن تبني الحكومة لهذه الفعاليات التراثية عن طريق التوثيق الإعلامي والأكاديمي من خلال بحث القضايا التي تهم الأسرة العمانية وهي حضن الطفل الأول الذي يحميها من الإندثار ويعمل على استمرارها؛ لأن هذه العادات شكل من أشكال التراث الثقافي غير المادي للإنسانية المخصصة للطفل .

وخلاصة القول.. إن هذه المناسبات الثلاث التهلولة والقرنقشوه وأخيرا حق الوقفة لا تقل أهميتها عن يوم الطفل العالمي الذي تحتفي به الأمم المتحدة ودول العالم. مع أهمية ما يطرح في يوم الطفل العالمي من قضايا تؤرق العالم حول الأطفال والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجههم.

** دكتوراه إدارة أعمال

تعليق عبر الفيس بوك