سيرة المكان: الطائيون الأوائل.. من هنا مرّوا (1- 2)

ناصر أبو عون

nasser@alroya.net

سيرة الأمكنة هي ذاكرة التاريخ التي تتأبى على الزوال، رائحة البشر عندما تلتصق بالحوائط، وتمتزج بطين الأرض، وتسري في شقوق الأزقة والحارات، وتنطبع في طمي الأفلاج، وتذوب في عروق الأمواج الجارية بين الصخور، تسقي الأرض العطاش، وتلقي بذرتها فتطلع نخيلًا باسقات تمد جذورها في بواطن الأرض الطيبة وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربّها.

وها هم أبناء (الشيخ القاضي صالح بن عامر بن سعيد بن عامر بن خلف بن صالح بن محمد بن صالح بن سعيد بن علي بن أبي القاسم بن محمد بن سليمان بن سعد بن عبد الله بن ماجد بن سليمان بن سعد بن أبي علي بن محمد بن مصلح البوشري الطائيّ جذورًا وأرومةً وظهْرًا وبطنًا)؛ أما نسبته إلى قبيلة (البطاشيَّ) فهو انتسابٌ (حِلْفِيّ وليس نَسَبيّ) وهذا ما أكده الشيخ  القاضي محمد البطاشي- رحمه الله -  حين نفى نسبة بني بطاش لطيّ، وأكده الكثير من العارفين في الأنساب.

أمّا عن جدّهم الأكبر- وكان يشتغل بالطبّ والمداواة - فقد خرج مع ولادة نجم دولة اليعاربة من قرية (إحدى) بوادي الطائيين، وهو وادٍ نحتته طبيعة الله في بطون سلاسل جبال الحجر الشرقي عبر  الطريق المفضية إلى ولايتي (بدبد)، و(صور)، وهو وادٍ عظيم المساحة، تضطجع الحجارة الجرانيتية على حوافّه وكأنه بحر صحراويٌ عظيم، مرصوفة أرضه بحصباء متفتتة من الصخور الرملية، نبتت في أعطافه أشجار (السُّمر)، بينما تُطل التلال الصخرية المتراصة المتلألئة رؤوسها تحت نير شمس الظهيرة على جانبيه، وكأنها ملائكة تتشوّف الغادين والرائحين على طول الطريق المؤدية إليه، وترصد حركة الحياة النابتة على ضفتيه، وعند نقطة التقاء هذا الوادي العظيم بوادي ضيقة - حيث يصعب السير فيه-، حطّت قافلة الجد الأكبر (الشيخ القاضي صالح بن عامر) في قرية (طيوي)، ثم خرج منها إلى (نزوى)؛ فلمّا سألوه: من أين؟ قال: أنا من طيوي، فقال له: إذن أنت طيوانيّ. فعلقت به وبذريته هذه النسبة، وإنما هو طائيّ نسبا وصهرا.

فهذا الشيخ الشاعر صالح بن عيسى بن صالح بن عامر الطائي (1932م – 1990م) أمّه كريمة العلامة القاضي الزاهد سعيد بن ناصر بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن محمد الكندي سعيد بن ناصر الكندية و [جدّه لأبيه هو (الشيخ القاضي سعيد بن عامر بن خلف البطاشي المسكدي)، وأخو جده هو (حمد بن سعيد بن عامر بن خلف العقريّ النزويّ)؛ كان حيًّا إلى سنة 1297 هـ وهو أحد رجال (دولة الإمام عزان بن قيس)، وعمُّه (الشيخ محمد بن عامر بن سعيد) مدرس (الإمام الخليليّ) علومَ النحو والعربيّة، ووالده (صالح بن عامر بن سعيد؛ قاضي مسقط.. وله قصائد ومطولات شعرية وفي إحداها ينشد مفتخرا بآبائه وأجداده (الطائيين والكنود)، مؤرخا لسيرة الأماكن التي نشأوا فيها وأصولهم التي تحدّروا منها، وبيوتهم التي نزلوا بها فيقول:

هم ملجأ للخائفين من العدا

والمؤثرين لمن أتاهم معسرا

///

قد كنتمُ يا (آل طيٍّ) قدوة

لم يبق إلا (هاشم) علم الورى

///

علم الشريعة قد غلقتم بابه

وسعيتم في علم عصر قد جرى

///

وإذا ذكرت معاهدا في (بوشر)

من (آل كندة) هم ليوث في الشُّرا

///

نارت بهم (نزوى) (السويق) وردة

ودعاة حق لا يريدون الثرا

///

نزلوا بـ(بوشر) فاستقر مقامهم

نالت به مشرفا وعزا أوفرا

///

وإذا نزلت بدارهم في مقحم

لا تسمعن إلا الصلاة مكبرا

فإذا ما طالعنا سيرة حياة الشيخ هاشم بن عيسى بن صالح بن عامر الطائي، وجدنا الشعر قد أطلّ عليه في الهزيع الأول من ملاعب الصِّبا ومن سقيفة بيتهم السمائلي، قبل أن يتعلّم القراءة ويخطّ بأنامله ألواح الكتابة؛ فكلما تقلّب في فراشه، وحدّق بناظريه بلا ملل أو كلل في جذوع النخيل المتراصة والمزخرفة بالنقوش في سماء صحن بيت (العود) بقرية (الجعفرية) من ولاية سمائل الفيحاء؛ أَعْظَمَهَا وأَجَلَّ قدرَها، وأعَيا قريحته ليعرف كُنهَها ويفهم مقاصدها؛ فلمّا فكّ طلاسم الحروف، وربط على قلبه، وقبض على جمر العلم بعد لَأْيٍّ ومجاهدة، استكشف دُرر المعاني، في بيتين من جواهر الحكمة، وشعر الفخر ينتسبان إلى أبيه قاضي القضاة محفوران بإزميل الصبر والأناة على جذوع النخيل التي تسقف مجلس بيتهم يقول فيهما:

قصر رسى فوق الثرى وسما إلى

عالي الطباق ولا يزال رفيعَا

///

سكنت به من "آل طي" عصبة

ورثوا المعارف والعلوم جميعَا

هناك في الفيحاء (سمائل) النائمة في حضن سلسلة جبال الحجر الشاهقة، وفي واديها نبت عود الشيخ القاضي هاشم بن عيسى بن صالح بن عامر الطائي في شجرة سلالته العريقة صهرا ونسبا، وأورقت فروعه علما وحكمةً في حجر جده لأمه العلامة القاضي الزاهد سعيد بن ناصر بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن محمد الكندي، وتردد صدى مسائله العلمية، ومطارحته الشعرية ورسائله النثرية على سلالم جنان الجبل الأخضر؛ فنشأ نقيّ الجيب طاهر الصدر، يألف ويؤلف، لا يزدهيه الإطراء، ولا يستخفه الثناء، جمع أكناف الرحمة في صدر سما على الضغائن، غسلته أفلاج الفيحاء الرقراقة من كل لجاجة، وطهرته مجالس العلماء من أدران المكابرة، ووطنّت نفسه على الرضا البطانة الصالحة من أهله ومريديه، وصدحت بلابل شعره في ظلال أشجار فلج (بو سمان) في بوشر التي اتخذها سكنا ومأوى تهفو إليها سريرته، وتنعم بظلالها علانيته، ويزهو بها مفاخرا، وله فيها بيتان يتردد صداهما على ألسنة سكان بوشر ومن زارها:

وقائلة ما بالك اخترت بوشرا

على سائر البلدان إذ هي أحقرُ

فقلتُ لها كُفّي الملامة إنما

بلاد الفتى من دينه فيه أوفر