الحاجة لعقد اجتماعي متجدد

د. عبدالله باحجاج

بدأ يُتداول بين النخب العمانية الآن، مفهوم العقد الاجتماعي الجديد، وستتصاعد النقاشات، وستتبلور في أشكال وألوان، كلما استمرت الحكومة في تقرير الضرائب والرسوم وتحرير الخدمات والسلع دون شراكة مجتمعية حقيقية، وجعلها مصدر تمويل رئيسي، رغم ارتفاع أسعار النفط والغاز، وتزايد مداخيل الموازنة العامة للدولة من عدة مصادر غير مسبوقة، مثل تحويل الكثير من الشركات الحكومية الى أرباح في عام فقط، بعد ما كانت تسجل خسائر منذ عقود، وبعد حالة الاطمئنان للاقتصاد العماني، ليس لتجاوز الضغوط المالية التي خلفتها أزمة كورونا وانخفاض أسعار النفط فحسب، وإنما كذلك للاقتصاد الهيدروجني الذي ستصبح فيه بلادنا مركزًا عالميًا له، ودولة مصدرة لأسيا وأوروبا.

وتلكم حيثيات مهمة تضعنا أمام الدوافع التي تقف وراء المطالبة بالعقد الاجتماعي الجديد/ المتجدد، وأميل هنا إلى تسميته بـ"العقد الاجتماعي المتجدد"، وليس الجديد، وذلك على اعتبار أن هناك عقد سابق من الضروري إعادة تجديده، وليس عقد جديد من فراغ، أو تجاهلًا للسابق، قياسًا على مفهوم النهضة المتجددة؛ أي تتوفر لدينا نهضة سابقة يعاد تجديدها منذ عام 2020. وهذا التجديد الشامل أصبح يمس أركان العقد الاجتماعي السابق، وبالتالي لم يعد العقد الاجتماعي السابق صالحًا للمرحلة المتجددة الشاملة.

ففي العقد القديم مثلا، كانت الحكومة توفر الدعم للغذاء والوقود والكهرباء، وخدماتها بين مجانية وشبه مجانية، وتوفر كذلك الوظائف في القطاع الحكومي بمرتبات آمنة، دون ضرائب.. إلخ، أما مرحلتنا الراهنة، فهناك ضرائب مؤلمة اجتماعيًا، والحكومة ترفع يدها بدرجة كبيرة عن دعم المجتمع، وتركز فقط على الفئة الأكثر ضعفًا، وفي الحد الأدنى من الحماية، وفيها باحثون عن عمل ومسرّحون ووظائف مؤقتة وأخرى بالساعة.. بمعنى عام، فقد كانت شبكات الدعم الاجتماعية جزءًا أصيلًا من العقد الاجتماعي السابق. ومهما ارتفعت أسعار النفط والغاز، ومهما تعاظمت الموارد المالية الأخرى للدولة، ومهما انتعش الاقتصاد العماني، فلن يكون هناك خط رجعة عن الضرائب ولا الجبايات الأخرى؛ فهي تأسس المرحلة المستدامة بفكر أيديولوجي، كما أوضحته في مقالي السابق المعنون "هل هو تمهيد لعودة تحرير الوقود؟".

وما سبق، وغيرها كثير، يُدلِّل على انتهاء صلاحية العقد الاجتماعي السابق الذي بُني على مفهوم الدولة الرعائية، والآن تم الانتقال إلى مفهوم دولة الجبايات، والفارق بينهما جوهري، وبالتالي تنتفي أساسيات ومقومات العقد مما يحتم عقد اجتماعي متجدد يتم البناء على السابق، تُحدَّد فيه بدقة الحقوق والواجبات بين الطرفين، ودون ذلك سيظل المجتمع متأخرًا عن ركب المسيرة.. وستظهر الحكومة متقدمة بمفهومها العالمي، فأين مقومات التعايش بين الجانبين في عصر الجبايات/ الضرائب؟

في محاولة الإجابة على التساؤل الأخير، تذكرت مقالًا لمعالي الدكتور سعيد بن محمد الصقري بعنوان "فرض الضرائب والعدالة الاجتماعية"، قبل توليه الوزارة عندما كان كاتبًا صحفيًا، ونراهن على معاليه لتدعيم هذا التوجه؛ لأنه من المؤمنين به، فهذا التوجه أداة من أدوات التعايش بين الحكومة والمجتمع في عصر الضرائب، فمعاليه- الكاتب- يرى أنه: "إذا كان من حق الحكومة ترشيد الإنفاق العام ورفع رسوم خدماتها ورفع نسبة الضرائب واستحداث ضرائب أخرى لمواجهة العجز، أصبح من حق المجتمع المشاركة في كيفية القيام بذلك قبل أن يكون واجبًا على المجتمع السمع والطاعة. وإذا كان من حق المجتمع المشاركة في اتخاذ القرار وكان مشاركًا حقيقيًا في رسم السياسات المالية، أصبح عليه واجبًا السمع والطاعة".

هذه الفقرة استشهدتُ بها في مقال قديم، وأكرر الاستفادة منها لإطارها الزمني، ولأن حق المشاركة المجتمعية غائبًا حتى الآن، وهو حق سياسي تمليه فرضية التحول إلى الضرائب ورفع الدعم عن المجتمع. ويعبر المجتمع عن استيائه بهذا الاستفراد بصور عديدة، طبعًا ليس من منظور "عدم السمع والطاعة"، وإنما من حيث ظهور الآلام الاجتماعية فوق السطح، وحالات الاستياء العامة في مجتمع يمثل فيه الشباب غالبية سكانية، لم تراع السياسات المالية والكثير من القرارات الحكومية، طموحاتهم المشروعة، وصنفتهم إلى باحثين عن عمل، ومسرحين، وموظفين بعقود غير دائمة في وظائف دائمة، ووظائف حكومية بعقود مع شركات خاصة، تأكل أكثر من نصف مرتباتهم، مثل محاضري الكليات الحكومية!

وهذا يُصوِّر لنا المشهد العام من جراء السياسات المالية، وإبداعات صناع القرار التنفيذيين الذي لا يفكرون في مدى قدرة المجتمع على تحمّل تبعات السياسات والقرارات والقوانين. المشكلة هنا، أنها تطبق بأثر فوري، في الوقت الذي يتدرج فيه حل معضلات الإصلاح؛ كتلك التي حددها معالي السيد وزير الخارجية عندما حصرها في ممارسات ومصالح متجذرة، وعادات وأساليب بيروقراطية عميقة، وهي التي تستوجب الآنية في حلها، وليس التدرج؛ لأن عامل الزمن هو الفعل الذي يحدث الفارق، ومن ثم النجاح المنشود في حقبة زمنية مليئة بالتحديات الداخلية والخارجية.

فمثلًا.. لو تساءلنا من أين يأتي مواطن راتبه 325 ريالًا أو باحث عن عمل أو مسرح، بالتمويل وفقًا للقانون الجديد الذي صيغ وفق عبارة حالمة وفضفافة وهى "اختار أرضك وعمّرها"؛ وهذا يعني أن مثل هذه الحقوق سيحتكرها فقط أبناء فئة بعينها، فهناك 23 قطعة ستوزع، فلمن ستؤول؟

والشراكة بين الحكومة والمجتمع، لن تقف ضد توجهات الحكومة المالية الجديدة، ولا القوانين؛ بل ستكسبها الشرعية الوطنية.. فمثلًا لن تقف ضد الضرائب أو رفع الدعم، وإنما ستعلقنها حفاظًا على استقرار المجتمع مع الانفتاح على مجموع المصالح الأخرى، ولن تقف ضد خفض الإنفاق الحكومي، وإنما ستوجه للبنود غير الضرورية، ولن تقف ضد حل قضية العجز؛ بل على العكس، ستكون له الأولوية.. ولن تقف ضد الليبرالية الاقتصادية وإنما ضد الوجه القبيح لها، وستقنع صانع القرار السياسي بأنه ومهما كانت الرهانات السياسية على الليبرالية الاقتصادية، فإن مفهوم الدولة الاجتماعي ينبغي أن يتعايش معها، ولا يعلو أحدهما على حساب الآخر. والنموذج العالمي الذي نقدمه هنا ألمانيا، فكل من يدرس تجربتها، سيخرج بنتيجة مفادها أنها تمكنت من المزاوجة بين المفهومين؛ الليبرالية الاقتصادية والدور الاجتماعي للدولة.

مما تقدم يتضح لماذا نحتاج لعقد اجتماعي متجدد في عصر الضرائب؛ لأن ذلك ضمانة لتحصين المجتمع من الاختراقات، وما أكثرها الآن، ولأن ذلك ضمانة للاستقرار الاجتماعي، وقد أصبحت إكراهاتها واضحة الآن، ولأن قوة الدولة قديمًا وحديثًا ومستقبلًا تكمن في بقاء الروابط بين السياسة والمجتمع، ولأن هذا العقد الاجتماعي لن يكون معرقلًا لمرحلة التأسيس ولا المرحلة ذاتها، وإنما ستكون عملية التأسيس بقاعدة اجتماعية قوية ومتماسكة، مهما كان حجم الانفتاحات المعاصرة أو إكراهاتها.