فضائيات الغلو.. كيف تخلق "داعش" الخلايا النائمة؟!

 

 

د. رفعت سيد أحمد

مع تصاعد عمليات الإرهاب باسم الدين، منذ انطلاق ما سُمِّي بـ"الربيع العربي" عام 2011، والتي ازدادت مؤخرا في العام 2022، بعد أن هدأت قليلا وظن البعض أنها كادت تتوقف. هنا، ينبغي البحث عن الأسباب الخفية لهذا الظهور المتجدد لتنظيمات الإرهاب الديني؛ وفي مقدمتها: داعش، والقاعدة، والإخوان ومن لف لفهم. ثمة أسباب سياسية واجتماعية واقتصادية عديدة، وثمة مؤامرات خارجية تُميت وتُحيي تلك الجماعات وفقا للمصلحة والهدف الغربي الخارجي، إلا أننا اليوم سنضيء على جانب وزوايا مهمة لا يلتفت عادة إليها الباحثون في الإرهاب بالقدر الكافي، بل إن بعضهم يكابر وينفي عنها صفة المسبِّب للإرهاب ولانفجارته الجديدة.

هذا الجانب هو ما نسميه بـ"فضائيات التطرف والغلو الديني"، والتي نرى أنها باتت في الآونة الاخيرة تمثل سببا إعلاميا ودينيا مباشرا في رفد وتمويل "داعش" وأخواتها بالفكر والأفراد الممسوحة عقولهم، والمستعدين لقتل المخالفين لهم في الدين والسياسة. هذه الفضائيات التي ظاهرها الرحمة بات باطنها العذاب والدعوة المستترة للإرهاب، وتبرير العنف ضد المجتمع والوطن والجيوش العربية.. ولنتأمل المشهد.

أولًا: في دراسات إعلامية جديدة حول الفضائيات ومستقبليها من الجمهور العربي، ذكرت أنَّ عدد القنوات الفضائية يتجاوز الـ5000 قناة؛ منها قرابة الـ900 قناة يستقبلها المشاهد العربي دون تشفير، وهناك أكثر من 300 قناة عربية يملكها مستثمرون وإعلاميون عرب وتتحدث بلغات عربية؛ أشهرها: اللبنانية والمصرية والخليجية، وتدار -في الغالب- بكوادر إعلامية عربية، وتقدم مادة إعلامية موجهة للعرب، ومن هذا الكم هناك حوالي 40 قناة تبُث الفكر الديني المتطرف، وتروج للفتاوى المخالفة لصحيح الدين، بل إن بعضها يتفاخر بأنه يبُث فكرا مناهضا للمذاهب الإسلامية الأخرى فيكفرها ويدعو لمقاتلتها.

هذه القنوات تحديدا هي التي نقصدها، هي التي تساعد في غسل أدمغة الشباب، وتلقي بهم في أتون "داعش" والقاعدة والإخوان، وهي عادة تستخدم التدرج في الدعوة، فلا تبدأ بالدعوة لحمل السلاح، بل تبدأ بتكريه المسلمين في إخوتهم في الوطن من (المسيحيين)، ثم تكريههم في الجيش والشرطة باسم رفض الاستبداد الفرعوني، ثم في أصحاب المذاهب الإسلامية الأخرى، ثم تُطالبهم بعد ذلك بحمل السلاح.. هي قنوات عندما تنفضح رسالتها ويظهر المختفي منها تُسارع بإنكار ذلك، لكنها تكون بالفعل قد بذرت البذور السامة في تربة العقل المسلم، وعبر شيوخ معممين ظاهرهم البراءة وباطنهم التطرف والغلو.

ثانيًا: يغلب على تلك الفضائيات الدينية صفة التعصب والغلو، ودعاتها في أغلبهم لا ينتمون إلى الأزهر الشريف، بل يكرهونه ويسخرون منه ضمنا في برامجهم، ولا يؤمنون بالوسطية السمحة التي يدعو لها الأزهر ومن شابهه من المؤسسات الدينية المعتدلة في عالم الإسلام بمذاهبه المتعددة.. وهذا الإنكار والتجاهل للوسطية يأتي بسبب أن غالب تلك الفضائيات تقدم برامجها عبر شيوخ "مشهورين" وليسوا بالضرورة "ذوي علم" وعمق فكري وثقافة اعتدال رصين. هُنا، يصح القول إن الشهرة لا تعني القيمة، وهذا ما ينطبق علي أولئك الشيوخ المؤسسين بفتاواهم الشاذة للتطرف الداعشي المتجدد، هؤلاء يُثيرون الفتن والحساسيات الدينية والطائفية والمذهبية، ويحولون تعاليم الأديان إلى ما يُشبه الأساطير والغلو، مستخدمين "شهرتهم" وليس "قيمتهم" ووزنهم الديني الحقيقي.

ثالثًا: إضافة لبث تلك الفضائيات لفتاوى وفكر التطرف، ثمة من يذهب من الباحثين المهتمين بتلك الظاهرة وانتشارها الواسع إلى كونها أضحت من زاوية أخرى مشروعاً استثماريًّا لبعض الأثرياء العرب، تأسس لغرض الاستثمار في قطاعات جماهيرية واسعة سلفية أو آخذة في التوجه نحو السلفية التي هي البيئة الحاضة والمفرخة تاريخيًّا للدواعش الجدد، أكثر منها إطاراً إعلامياً لنشر الأطروحة السلفية، إنها أقرب لمشروعات تستثمر في جماهير تحوَّلت بالفعل نحو السلفية، أو آخذة في التحول، أكثر من كونها تحمل رسالة دينية تريد تبليغها، ثم سرعان ما يفلت الأمر ويتحول المشروع الاستثماري الفضائي إلى الدم والفوضى والإرهاب، وهو عين ما جرى ولا يزال في سيناء المصرية وشمال سوريا والعراق وفي ليبيا.

خلاصة القول.. إنَّ تلك الفضائيات التي تبُث منذ سنين فكرًا وفتاوى دينية متطرفة في شرقنا الإسلامي، والتي يزيد عددها على الـ40 قناة، نعتقد أنها أحد الأسباب الإعلامية السرية لتأسيس وخلق خلايا نائمة لـ"داعش" وأخواتها من تنظيمات الغلو، سرعان ما تستيقظ لتقتل وتزرع الفتن والفوضى في الوطن الواحد.

ومن هنا، نُنبه إلى ضرورة مراقبة تلك الفضائيات ودعاتها، وضرورة الرد على الفكر الشاذ الذي تبثه، والأهم ضرورة خلق البدائل الإعلامية الإسلامية المعتدلة في مواجهته، وعدم ترك الساحة له ليملأها بالغث والمتطرف من الفتاوى والفكر الذي سرعان ما يُترجم إلى بندقية.. ذلك هو التحدي، وعلينا أن ننتبه ونواجه.. والله المستعان.