ريفي في جامعة السلطان قابوس (3- 5)

علي بن سالم كفيتان

في مساء الخميس، انفردتُ بحديث نادر مع والدي على طرف الموقد، بينما الجو كان ماطرًا بغزارة في الخارج؛ فاختلطت فرقعات النار من الموقد مع زخات المطر على صفائح السقف المعدنية التي يعقبها هدوء ومن ثم قطرات المياه تتسابق الى الأرض؛ ليعزف المشهد سمفونية جميلة بطلها الإنسان والطبيعة ولطف الله؛ فشهر أغسطس هو رداء ظفار يغشاها بغيماته الكثيفة ويسبل عليها ماء لا ينقطع ولا يستمر حتى تتشرب الأرض العطشى على مهلٍ، فتروى العروق التي كاد الظمأ أن يقتلها لتعود الحياة مع المطر.

كانت ليلة الوداع والحديث الذي لا يُمل مع رجل لم يكن يتحدث كثيرًا حتى معنا نحن أولاده؛ فأفعاله كانت كافية لنقتفيها كأثرٍ خالدٍ؛ فالصمت عنده يكفي كعقاب على الخطأ، والابتسامة الغامضة والثناء الجميل عند الاجادة والانجاز. في تلك الليلة، حدثني عن صفحات من حياته وكفاحه مع الحياة، ثم نظر إليّ مبتسمًا، وقال: خذ معك ليمونة في جيبك عندما تركب الطائرة فرائحتها تذهب الدوار وتمنح الانتعاش، وهذه النصائح مبنية على تجربة كلينا في الطيران، فالطائرات الوحيدة التي ركبناها كانت طائرات الهوليكوبتر العسكرية، وأذكر طيراني الأول والأخير حتى تلك اللحظة، كان عبارة عن عملية إخلاء لمريضة من إحدى التجمعات البعيدة التي لا تصلها السيارة إلى مستشفى السلطان قابوس بصلالة، وكنتُ راكبًا معهم كعبرية إلى السهل، بينما كان أبي أحد رجال الفرق الوطنية الذين ساعدوا في نقل تلك المرأة الى الطائرة، ومن ثم إلى المستشفى. لقد كانت تجربة لا تُنسى، فالطيران الأول في كل مناحي الحياة تشوبه الكثير من المشاعر، فإن تغلب الخوف لم يمتعك التحليق، وقد توقع كلانا في تلك الأمسية أنني سأسافر للجامعة على متن طائرة عمودية ولذلك وجب اصطحاب الليمون.

الجميع في المنزل نائمون، ونحن على الموقد وزخات أغسطس لا تنقطع وقطرات الماء المتعاقبة من السقف تتوالى على الأرض، كان حديث النصح أخلاقيًا بامتياز؛ فسمعت لأول مرة مصطلحات لم أكن أعرفها، وأفعالا لم أكن أتوقع وجودها في هذا الكون، ممزوجة بتجارب السفر والغربة التي خاضها أبي في ستينيات القرن الماضي؛ فالحديث كان موجها بقوة للشيم والقيم والدين؛ فظفار تمتلك إرثًا من القيم التي أقرّها العُرف فأصبحت كالدستور الذي يفرض على الجميع اتّباعه لا شعوريًا، وقوام تلك الأمور هي النجدة والكرم والبعد عن رذائل الأمور ومغريات الشيطان.

جرنا الليل إلى منتصفه وهو حدثٌ لم يكن طبيعيًا لأسرة ريفية تنام بعد العشاء، وتقوم مع تباشير الفجر الأولى. تنحى أبي جانبًا واضطجع على فراشه، وفتحتُ أنا الباب بحذرٍ كي لا أوقظ أحدًا، وأغلقته خلفي، وخرجت للفناء المظلم الماطر، تلمست الجدار وجلست أسوق مخيلتي مودعًا الأرض التي أحب، والناس الذين بذلوا كل طاقتهم لأكون أفضل، فمرّت عليّ عبرات أمي ولطف أختي الكبرى وحنو جدتي وحزم أبي، وتذكرتُ كل الهدايا التي كان يحضرها أخي الاكبر ليُسعدنا بها.. مرّت عليّ عيون إخواني الصغار وانكسارهم لبعدي. تذكرت رفاقي في فرقة أبو بكر الصديق الشرقية (فرقة طيطام) من الرجال الأبطال وزملاء الدراسة والمدرسين العرب، وفلج تيدبور، فهناك ذكريات ومواقف لرجال ونساء وسير من الكد والعرق الشريف يلتقون جميعًا هناك ليطفؤوا عطش السنين العجاف، حالمين بسنوات الغيث ومواسم الرخاء.

تغسلت في تلك الليلة دون أن أشعر، وعندما انتبهت وجدتُ نفسي مبتلًا بالكامل، سحبت نفسي للداخل وأوصدت الباب بهدوء من خلفي تخلصت من الملابس المبتلة واستبدلتها بأخرى يابسة وأغمضت عين الفانوس واضطجعت إلى جانب أبي، أحسست بدفئه وهيبته وشعرت للمرة الأولى أنني سأفتقد هذه الرعاية الصامتة الحازمة وخلدت الى النوم بعدها.

كان البيت دافئًا حنونًا آمنًا، رغم اشتداد المطر وقلة الأدوات، فعلمتُ حينها وللمرة الأولى أن مشاعر السعادة والأمان والحب لا تنبع من الأشياء التي نمتلكها؛ بل من الأشياء التي تكمن بداخلنا؛ فالطاقة الإيجابية التي تبثّها الاسرة رغم شظف العيش وقلة الممكنات، كانت كفيلة ببناء أُسرة سوية وأُناس سعداء بما عندهم؛ فاستطاع جميع أفرادها الخروج من ذلك العش والتحليق بعيدًا في فضاءات الحياة وتحقيق النجاحات وردم الانكسارات وامتلاك قدر من الحب والأمل والإيمان، يكاد يكون معدومًا عند الكثير من الناس في عالم اليوم... وللحديث بقية.