عالم ما بعد أمريكا

◄ العالم يمر بمخاض عسير ويقترب من ولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب

◄ أمريكا تعاني من ضعف دولي وتصدّع داخلي في مؤشر على الانهيار

◄ العرب أمام مفترق طرق ولحظة تاريخية حاسمة.. والحياد الإيجابي النهج الأمثل

حاتم الطائي

مخاضٌ عسيرٌ يمر به العالم في الوقت الراهن، مع استمرار حركة التاريخ والطبيعة نحو إنهاء عصر الأحادية القطبية، وعالم الدولة العظمى الوحيدة الذي أنتجه نظام ما بعد الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، لكنَّ هذا المخاض وتلك الولادة المتعسرة للنظام الدولي الجديد لن تنتهي سريعًا؛ بل ستستغرق سنوات طويلة، عبر سلسلة من الأحداث الجسيمة التي تغّير مجرى التاريخ، ولا شك أن الحرب الروسية في أوكرانيا، تعد واحدةً من تلك الأحداث، لكن ما الأحداث الأخرى التي قد تُسرِّع من وتيرة حركة التاريخ؟! وما دور العرب ومسؤولياتهم التاريخية تجاه ما يحدث من حولنا؟

الأسئلة كثيرة ومتعددة، لكنَّ الإجابات صعبة وتزداد صعوبة مع مرور الوقت دون تحريك ساكنٍ، فخلال الفترة التي أعقبت حركات التحرر الوطني في الوطن العربي الكبير، وصعود نجم التيار العروبي القومي، تنامى تيار آخر معادٍ، سعى إلى وأد الحلم العربي الذي أخذ في التشكل خلال تلك المرحلة، وتحديدًا فترة الستينيات من القرن الماضي، ومهما كان الاختلاف في وجهات النظر تجاه تلك الفترة أو أوجه القصور التي شابت بعض الإجراءات والقرارات، وخاصة الأفكار الوحدوية والتجارب الاتحادية، إلّا أنه لا يخفى على القارئ الجيد للتاريخ أن ما شهدته منطقتنا بعد ذلك مباشرةً لم يكن سوى ترجمة للسعي الغربي لترسيخ وتأكيد هيمنة "القطب الواحد"؛ أمريكا. فقد بدأت قيادة الولايات المتحدة للنظام العالمي في نهاية الستينيات وتعززت بعد ما مارسته من أدوار في حرب أكتوبر 1973؛ سواء دخولها خط المواجهة بكامل قوتها خلف إسرائيل التي غُرست عن عمد في منطقتنا لأسباب عدة لا يتسع المقال لها، أو خلال مرحلة التفاوض ورعايتها المباشرة لاتفاقيات كامب ديفيد. أعقب ذلك مسعى الولايات المتحدة لإضعاف روسيا القوة العظمى الأخرى التي خرجت منتصرة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتجلت هذه المساعي خلال فترة الحرب الباردة، ووصلت في واحدة من أسوأ محطاتها إلى أزمة "الصواريخ الكوبية" أو "أزمة الكاريبي"، لكن العالم- وقتذاك- نجا بأعجوبة من حرب نووية. وتوالت الأحداث المختلفة حتى إعلان تفكيك (أو انهيار) الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي. وعندئذٍ تولت أمريكا رسميًا قيادة العالم منفردةً، لا ينزاعها أحد، ومن مفارقات التاريخ أن عام 1991 شهد انهيار الاتحاد السوفييتي وكذلك توقيع "معاهدة ماستريخت" التي كانت النواة الأساسية للاتحاد الأوروبي في صورته الراهنة، بعد محاولات عدة لبناء تحالف أوروبي، اتخذ أشكالًا مختلفة منذ حقبة الخمسينيات من القرن العشرين.

ما يعنينا هنا هو أن النظام العالمي القائم على الأحادية القطبية لم يعد قادرًا على الاستمرار، خاصة بعد الزلزال العنيف الذي أصاب الاتحاد الأوروبي مع خروج بريطانيا في 2020، وكذلك ضعف النظام الحاكم في ألمانيا بعد تقاعد المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، والتي كانت المرأة الحديدية بجدارة؛ حيث استطاعت أن تقود أوروبا نحو انعتاق واستقلالٍ -ولو نسبيًا- عن دائرة الهيمنة الأمريكية، ورسخت علاقات أوروبا مع روسيا، لا سيما تحت قيادة الزعيم فلاديمير بوتين. فخلال سنوات حكم ميركل انتهجت سياسة احتواء الدب الروسي، من منطلق إدراكها ويقينها بقوته، وبذلت من أجل ذلك جهودًا كبيرة، أسفرت عن علاقات اقتصادية وثيقة، تجسدت في خط "نورد ستريم 1" الذي يزوّد ألمانيا بالغاز الروسي، وهو بمثابة شريان الحياة لألمانيا، وكان البلدان على وشك افتتاح خط "نرود ستريم 2" الذي يهدف إلى مضاعفة صادرات الغاز الروسي إلى ألمانيا. لكن الولايات لم تكن يومًا راضية عن هذا التعاون الوثيق بين موسكو وبرلين، حتى إن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب صرح علانية باعتراضه على تلك العلاقات، وطالب ميركل بالحد منها. ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا، وفرض أعنف عقوبات في التاريخ على دولة واحدة، تبين بوضوح أن أمريكا باتت تعلم يقينًا أنها قد تصل لمرحلة الانهيار قريبًا، ولذا تعمل جاهدة كي تُضعف روسيا، لكن جميع المحاولات فشلت بدرجة كبيرة. أضف إلى ذلك أن المجتمع الأمريكي انزلق خلال عهد ترامب في أتون صراعات تسببت في انقسامات حادة، وانفجار توترات عرقية وإثنية أسفرت عن جرائم قتل جماعي ومجازر لم يكن يومًا أحدٌ يتخيل أنها تقع في أمريكا، وفوق كل ذلك غلاء فاحش وتضخم غير مسبوق، وسقوط الملايين في براثن الفقر، وكل ذلك مؤشرات على الانهيار.

وفي جانب آخر، نجد صعود الصين مثيرًا للاهتمام، باعتبارها قوة اقتصادية عملاقة حققت نجاحات اقتصادية بعيدًا عن النموذج الرأسمالي الغربي، وتواصل مساعيها لبسط قوتها الناعمة ودبلوماسيتها الاقتصادية المُبهرة، دون القيام بأية ممارسات إمبريالية، كتلك التي نفذتها أمريكا في مختلف دول العالم، ومنها منطقتنا العربية بوحشية وقسوة.

الآن، العرب أمام مفترق طرق، في لحظة تاريخية حاسمة، لحظة تشهد ميلاد نظام عالمي جديد، لا يعتمد على الأحادية القطبية، ولا الثنائية، بل ربما ثلاثية ورباعية، أي بالمختصر "نظام التعددية القطبية" في عالم ما بعد أمريكا. والحكمة تقتضي أن يؤمن العرب بأن مستقبلهم يكمُن في تبني الحياد الإيجابي والسعي إلى تنمية الأوطان عبر التكاتف والتعاون العربي- العربي، فكم احترقنا بنيران الحروب التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وكم احترقت دول عربية خلال زمن القطب الواحد فكُنّا أكبر الخاسرين، فها هي العراق استحالت أنقاضًا، فيما اشتعلت سوريا عن بكرة أبيها، ودُمرت ليبيا تدميرًا، وسقط اليمن في براثن الجوع والفقر والعنف المسلح، وكادت مصر أن تنزلق في الفوضى لولا لطف الله ووعي شعبها...

والسؤال الذي يتعين أن نجيب عليه في ظل ما يشهده العالم من صراع وتحركات هنا وهناك وقمة دولية مرتقبة على أعلى مستوى: هل نجد لأنفسنا موقعًا آمنًا بعيدًا عن أي صراعٍ مدمرٍ، وأن ننأى  بأوطاننا عن المهالك، ونقودها إلى بر الأمان للحفاظ على ما تحقق من منجزات؟!

ويبقى القول.. إن العالم وهو يمضي نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب، فإن المستقبل القريب والبعيد، قد يشهد الكثير من الآلام.. الحروب.. الدماء.. الكساد الاقتصادي، إلى حين من الدهر، حتى تنطفئ النيران وتنقشع الغمامة وتنتهي الهيكلة الجديدة للعالم.